tadwina-36068622-tadwina

tadwina-36068622-tadwina

الاثنين، 8 نوفمبر 2010



كذب علي ورق


تتناول القلم في خفة وتبدأ في كتابة رسالتها: أريدك أن تعرف أنني فكرت كثيرًا قبل أن أصل إلي قراري هذا، لقد سئمت تلك الحياة ما عدت أطيق، لم تسألني يومًا، لم تغضب يومًا، لماذا لم أغسل قميصك؟، هذا الطعام سيء، ملحه قليل، لن نذهب إلى السينما، أنا متعب، ليت هذا يحدث ولو مرة، لقد تعبت من رضاك بكل ما أفعل، لماذا لم تغضب يومًا، لماذا لا تثور بوجهي؟،يرضيك كل شيء، حتى إهمالي في هندامي تغفره لي، أكاد أجن، لم تمتد يدك علي مرة واحدة، لم تفكر حتى في سؤالي لماذا خرجت بدون إذنك، لم تفكر في رفض مطالبي المستمرة بزيادة المصروف، أتدري لماذا لم أذهب معك أمس للمسرح؟، لأنك وافقت بمجرد أن طلبت منك ذلك، أرجوك اصفعني، كشر لي عن أنيابك ازجرني، توعدني كما يفعل كل رجال الدنيا، إنك تضايقني بالحرية أرجوك، أرجوك، ولكن ما الفائدة؟ هذه ستكون نهاية المطاف فلا أخال صوتك وقد ارتفع يزجرني، ولا أظن أنك سوف ترفض لي شيئا مهما كلفك، إنك تضايقني بعبوديتك تلك، تذكرني طاعتك بطاعة الرق، وتؤرقني منك طيبتك المفرطة الانفصال، نعم الانفصال هو ما عزمت عليه لأني ما عدت أطيق. يدق جرس الباب، تكور الورقة التي كتبتها في قبضة يدها تلقي بها من النافذة، يدخل زوجها تقوم إليه، تحيط رقبته بذراعيها، تهمس وهي تطبع قبلة على وجهه: ما قيمة الحياة بدون حبيب مثلك؟...و..ورقة .
تمت


==========================================================

موسيقى العجلات
...... رتابة صوت عجلات القطار انقلبت هذا الصباح إلى موسيقى عذبة وازدحام الأجساد الخانق اختفى من ناظريها، الأصوات المتداخلة التي كانت تطلق عليها التلوث السمعي، وتضع سماعات المسجل الصغير بأذنيها لتحول بينها وبين هذا التلوث، حتى هذه السماعات اختفت، هي نفسها حين شرعت تعدل من هندامها أمام المرآة القديمة قرب الباب، قبل اندلاقها للخارج شعرت بأن شيئا ما تراه لأول مرة، لم تتبين كنهه لكن ابتسامة الرضا التي لمحتها فوق شفتيها خلال المرآة كانت كافية بالنسبة لها لتبدأ مشوارها اليومي، شعور جديد، التفتت عن غير قصد إلى الجالس بجوارها، كهلا في السبعين يمسك بجريدته الصباحية في استغراق ملفت، استرقت عينيها بعض العناوين قبل أن يرمقها بنظرة أشعرتها بالخجل، حولت عينيها بسرعة عبر النافذة، عادت موسيقى عجلات القطار تدغدغ مشاعرها لا تعرف لماذا لم تنتبه إلى جمال هذا الصوت من قبل، أغمضت عينيها في نشوة، أخرجها منها ارتطام قدم بقدميها، فتحت عينيها على إيماءة اعتذار من الفتاة الجالسة في المقعد المقابل، تبسمت راضية بالاعتذار، تعلقت عيناها بوجه الفتاة، همست سبحان الخالق، شعرها الأسود الفحم المتدلي في خصلات هائمة فوق الكتفين، جبهتها المضيئة الواسعة، عيناها السوداوان، وشفتاها المتمردتان حتى على لون أحمر الشفاه المصبوغتان به، هبطت بعينيها قليلا، لمحت صدًرا ثائرا يكاد يفض قيوده، وخصرًا رغم جلسة الفتاة المسترخية تتضح معالمه، قفزت صورتها في المرآة أمامها، بحركة لا شعورية تحسست وجهها بيدها، وقفت قبل أن تمر بيدها على باقي الجسد وحمرة الخجل تعلو الوجنتين، حين توقفت العجلات عن الطنين المنتظم أفاقت من أفكارها وهي تحاول استجماع شتات نفسها، هذا اليوم تكمل عامًا في عملها الذي تسلمته بعد تخرجها ببضعة أيام، كان عامًا شديدًا عليها، رغم ذلك استطاعت أن تتخرج، موت أبيها العائل الوحيد بعد وفاة أمها وهي لازالت طفلة، كان بمثابة الصدمة لولا فضل الله والتحاقها بالعمل، عادت موسيقى عجلات القطار إلى العزف وعلا الصوت رويدًا، رويدًا، تناغم الصوت على القضبان في حدة يذكرها بصوته حين تأخرت لأول مرة، طالعها بنظرة صارمة، ما لبثت أن تحولت إلى نظرة عطف حين رأى حمرة الخجل واختلاط خطواتها المتعثرة، نبهها في رقة أن لا تتأخر ثانية، أخذ يعدد مزايا الحضور باكرًا وكيف واظب هو على ذلك قرابة خمسة عشر عامًا، وقفت مشدوهة أمام نبراته وصوته الرجولي الأخاذ، سرحت بخيالها، لم تستمع لأية كلمة مما قاله، شعر أنه تمادى، توقف فجأة، أذن لها بالدخول إلى مكتبها، جلست ساهمة لا تعرف ماذا جرى لها، أبعد كل هذه المدة تكتشفه لأول مرة؟، كيف لم تره أو تسمعه من قبل؟، إنه رئيسها المباشر تراه يوميًا، تهمس بالسلام عند حضورها وانصرافها، يأتي كل يوم لموقع مكتبها يضع الملفات كما هي عادته مع باقي الموظفين بالقسم، يجلس في ركن الحجرة، يطالع دفاتره، يراجع الملفات التي تم الانتهاء منها دون أن يرفع ناظريه حتى موعد الانصراف، عادت هدهدة عجلات القطار إلى الهدوء، توقف الطنين، تلفتت في عفوية إلى الممر الفاصل بين مقاعد القطار، لمحت سيدة في الأربعينيات تحتضن رضيعًا في حرص بالغ، تمنت لو أن هذا صغيرها، بجوار السيدة يقف شاب مكفهر الوجه متأفف، خلفه تستند فتاة إلى ذراع شاب، يتبادلان الحديث بصوت خفيض، يبدوان كحبيبين أو مخطوبين، تحركت شفتاها بالكلمة الأخيرة، همست لنفسها، الخطوبة، يا لها من كلمة رائعة، عاودت العجلات حركتها وصوتها المتهتك فوق القضبان، سرحت بخيالها عبر النافذة، أتراه شعر بما شعرت به؟، ذمت شفتيها في حيرة، حاولت الهروب من أفكارها، أغمضت عينيها وهي تسند رأسها إلى النافذة، تبسمت شفتاها وهي تطابق بين موسيقى العجلات ودقات قلبها المتناغمة، هبت الفتاة الجالسة بمواجهتها واقفة، حاولت العبور إلى الباب متحاشية الأقدام في حذر، فتحت عينيها، عاودها الشعور ذاته وهي تقارن بين جمال الفتاة ونفسها، شعرت بأن الجميع ينظر إليها وهي تحاول تذكر تفاصيل الجس في المرآة، رمقتها الفتاة بنظرة باسمة قبل أن تغادر القطار، يذكرها القطار وصوت عجلاته الصاخبة بالحياة، يركب من يركب، وينزل من كتب عليه المغادرةن انحدرت دمعة على وجهها وذكرى أبيها تمر بها، قصيرة هي الحياة، باق محطة واحدة، هل سيفاتحني اليوم؟، هل أفاتحه أنا؟، أ...لم تكمل، كيف لفتاة مثلي أن..انتبهت لصوتها الذي فارق الهمس بقليل، صمتت، لملمت أفكارها، هبت واقفة، اتجهت للباب، توقف صرير العجلات، نزلت متباطئة تود ألا يفارقها صوت موسيقى العجلات، أخذت الأصوات تتباعد حتى تلاشت، الوقت لازال باكرًا، إنه الآن بالمكتب، لعلها فرصتي الآن أخذت تحدث نفسها في همس حتى وصلت إلى المكتب، دخلت لاهثة، ألقت بالسلام، كان قابعًا كعادته في ركن الحجرة وبيده الجريدة، حاولت شد انتباهه، سألته: ما هي الأخبار اليوم؟، رفع ناظريه إليها وقطب جبينه، إنها المرة الأولى التي تتحدث فيها عن شيء، رد ساخرًا: وما يعنيك من أمر الأخبار؟ تلعثمت وهي ترد: لا شيء، شعر بفظاظته، أردف: كل النساء لا يعنيهن إلا الزينة وأمور المطبخ، تعلقت بطرف حديثه: عفوًا، ليست كل النساء، و لكن ألا ترى أن الرجل يهمه هذان الأمران في المرأة التي يختارها كزوجة؟، رد بعد أن عدل من جلسته: نعم في امرأة يختارها، وليس أي امرأة يقابلها، أي امرأة كأي رجل عندي أنا مثلا، أتوق للحديث كائنا من كان، هو أو هي، ويكفيني فقط كونه إنسانا يحادثني و يشاركني هموم الحياة، و..توقفت كلماته و هو يطالعها من وراء نظارته، ازدرد ريقه وهو يتابع: أي شيء فيكِ اليوم؟ إنك لست كعادتك، أومأت برأسها خجلا وهي تسأله مستفسرة: ماذا تعني؟ تردد قليلا قبل أن يكمل: أعني أنك أجمل، أشيك، أرق من كل يوم رأيتك فيه سابقا، قطع كلامه وصول موظفي المكتب .
لم تستطع أن تقوم بأي عمل، ظلت محدقة في الأوراق ودقات قلبها تهزها بعنف مذكرة إياها بالقطار وموسيقى عجلاته، مضت ساعات العمل وهي ساهمة تقلب في الأوراق بين الحين و الحين، وتختلس النظر إليه وهو مشغول في مراجعة الملفات، خاب أملها حين هب واقفا، ألقى بالسلام قبل أن يغادر، حاولت أن تهدئ من قلقها وهي في طريقها لمحطة القطار، التمست له الأعذار، كيف له و هو رمز الانضباط والوقار أن يحادثني أمام الجميع؟، أخذت تلوم نفسها، أكان من الممكن أن يقولها وسط الجميع؟ أنت جميلة رائعة، ليس هذا إنصافا للرجل، ولكن لماذا لم يلمح لي ولو بنظرة، كيف يفعل هذا وموظفو المكتب..؟ قطع حديثها صوت القطار وأزيز عجلاته وهو يحاول التوقف بالمحطة، في خفة قفزت إلى القطار، لمحت مقعدًا شاغرًا، ألقت بنفسها عليه، أسندت رأسها إلى النافذة وهي تنتظر تحرك العجلات، قطع تركيزها صوت السيدة الجالسة بجوارها، كانت تحادث سيدة أخرى بصوت عال، شدها الحديث رغم غرابته، أيعقل أمر كهذا؟، سحر؟، أعمال يفكها الشيخ البهلولي؟ السيدة تؤكد وتقسم، سحروا رقية فأصبح زوجها لا يطيقها حتى فك الشيخ البهلولي السحر، والله ده سره باتع، تبسمت وهي تحاول النظر جهة النافذة بعدما ذكرها الكلام بأحد أفلام السينما القديمة، صوت السيدة قطع تركيزها، عاودت الإنصات عن غير قصد، السيدة لازالت تتحدث عن بركات الشيخ ورفيقتها تبدي الاقتناع المغلف بالاندهاش، توقفت السيدة عن الكلام بتوقف عجلات القطار، تودع رفيقتها، أخيرًا تستطيع التمتع بموسيقاها المفضلة حتى تعود إلى البيت، ألقت بنفسها فوق السرير، صوت العجلات لازال يدغدغ مشاعرها، تمزج بين قوته وهندسة انتظامه، وبين صوته الدافئ القوين تخيلته أمامها، يقترب، يحتضنها، تناولت الوسادة، اعتصرتها بين يديها وقلبتها، احمرت وجنتاها خجلا كيف تسلمين نفسك له من أول لقاء هكذا؟، ألقت بالوسادة، ضحكت، تذكرت حديث السيدة بالقطار، علت ضحكتها، كم كان والدها يسخر من هؤلاء المشعوذين ومن يصدقهم أو يتبعهم، أغمضت جفونها تود لو تحلم به، حين استيقظت قبل موعدها كان هاجسها أن تصل قبل الباقين، تخيرت ثوبًا لم تلبسه منذ زمن، عاودت وضع زينتها مرتين وهي ترجح أنه يفضلها هادئة، هذا يتفق مع وقاره، انحصر تفكيرها طوال رحلة القطار الصباحية فيما ستقوله له، وماذا سيكون رده، وهل سيكمل حديثه الذي بدأه بالأمس؟ لم تعرف أجوبة لكل هذا، وصلت المكتب، تبسمت فرحة وهي ترى التغير الذي طرأ على ملابسه حتى نظراته لم تكن كسابق عهدها، نظرات ملؤها الرغبة، عينان لامعتان بحب لا يستشعره إلا من دق قلبه للحب فجأة، بادرها بالكلام، تلعثم و هو يشعر بمرور الوقت، طلب مقابلتها بعد انتهاء العمل: ليكن في المطعم قرب محطة القطار، أردف: إذا لم يكن لديك مانع، أومأت موافقة وقلبها يكاد يطير فرحًا، وان لم تبد هذا مرت ساعات العمل ثقيلة وهي تحاول ألا يبدو عليها شيء، في المطعم وفي ركن منزو، كان ينتظرها، ازدرد ريقه، ثم أردف: لست مراهقا أو شابًا بلا خبرة، لذا فأنا سأكلمك عن نفسي وظروفي، وأرجو ألا يغير هذا من مشاعرك تجاهي، أردف: أنا متزوج، ولكن، ولكني غير سعيد، حياتي أصبحت روتينية، زوجتي غيرك تمامًا ليس بها رقتك أو جمالك جاذبيتك، حاولت أن تتكلم، أشار بيده، انتظري حتى أكمل، أعرف سؤالك، لماذا إذن قابلتك وسمحت لمشاعري بهذا؟ لأني أريدك، أحتاجك، أنا أريدك زوجة لي، إذا وافقت سأكون أسعد رجل على وجه الأرض, وإذا رفضت سأكون أتعس إنسان، لم تستطع الكلام، كيف خانها ذكاؤها؟، كيف لم تلحظ يوما أنه متزوج؟ إنه لم يتكلم يومًا عن زوجته وأولاده، أومأت برأسها حائرة، أعجبتها صراحته، حاول قلبها الدفاع عنه خلال تناول الطعام، ظل يرمقها بعينين عاشقتين وهي تحاول مداراة خجلها وصرف تفكيرها في ردها على سؤاله، قبل أن يغادر المطعم همس لها: سأترك لك فرصة للتفكير، لا تردي الآن، الجرد السنوي بمحافظات الصعيد بعد غد، أنا منتدب لرئاسة إحدى اللجان، سأتغيب أسبوعين، أرجو عند عودتي أن تكوني قد اتخذت قرارك، عند خروجهما لاحظت أحد الأشخاص يرمقها بنظرة مرتابة، لم تلتفت إليه، اشتعل حبه بقلبها زاد شوقها، تخيلته في العمل، في البيت، حلمت به في منامها، أصبح شغلها الشاغل، لم تصادفها تلك الأحاسيس من قبل، قلبها ينبض وجسدها ينتفض حين تفكر به، عقلها تعطل بعد رفضه لحبيبها، أغفلت الاستماع إليه، ماذا يضر إن تقاسمته أنا وزوجته؟، المهم من يحب، وإلى من يميل، أمضت الأيام وهي بين أحلامها وأشواقها، لم تستطع مدارة فرحتها يوم وصوله، أقبلت باكرًا والابتسامة تعلو وجهها، هو لم يكن أقل منها سعادة، همس إليها: أحبك، أطرقت إلى الأرض في حياء، سألها: متى يتحقق الحلم؟ لم تجب، أردف: ليكن الأسبوع القادم، لدي إجازة أسبوعان نمضيها بعيدا على ساحل البحر بعد أن نتزوج، رقص قلبها وهي تحاول أن تكبت فرحتها المختلطة بحيائها، همس وهو يطالع ساعة يده: الغداء بالمطعم، لدي الكثير لأقوله، أجابته بابتسامة، تأخرت قليلا حتى لا يلحظ أي من زملائها شيئا، عند باب المطعم رأته خارجًا بصحبة ذات الرجل الذي رأته يرمقها من قبل، لم تكلمه، تبادلا النظرات وهي تحاول تجاهل نظرة استهجان من عيني الرجل، لم يهدأ تفكيرها، ظلت الليل مستيقظة، عند خروجها صباحا كانت متلهفة لمعرفة ما حدث، غطى ألم رأسها على أصوات عجلات القطار، لم تشعر إلا وهي واقفة أمام مكتبه الخالي، ظلت تائهة تشعر بضيق، لم تطق البقاء، استأذنت، لم يفارقها الألم طوال اليوم، صباح اليوم التالي، حين وصلت، بادرته: ماذا حدث، من كان هذا الرجل؟ أطرق في حزن: شقيق زوجتي، وقد عرفت زوجتي بالأمر، عاجلته بسؤال: وهل غضبت؟ رد في عجب: لا، ما ضايقني هو عدم اكتراثها بالأمر، فقط طلبت مني التفكير، إما أنتِ وإما هي والأولاد، سرت قشعريرة بجسدها: وهل فكرت؟ أجاب وهو يمد يده ليدها: أنا لا أستطيع الاستغناء عنك مهما حدث، شعرت براحة وهي تستمع لصوته الواثق القوي، قبل أن تتركه إلى مكتبها، قال بصوت كسير: فقط أعطني فرصة لأقوم بالترتيب، يجب ألا ندع شيئا ينغص علينا فرحتنا بالزواج طار قلبها فرحًا وهي تستمع لكلماته .
مرت الأيام وهي غارقة في سعادتها، لم تلحظ تغير مشاعره، صار كالسابق لا ينظر إليها عند حضورها باكرًا، يرد في اقتضاب، حاولت أن تقنع ذاتها أنه مشغول بالترتيب لزواجهما ووضع حد لتعنت زوجته، في نهاية الأسبوع مضى مغادرًا دون أن يطلب منها انتظاره بالمطعم، مرت كالعادة، لم تجده، فيما بعد ذهبت مبكرة، نظرت إليه، أطرق إلى الأرض حين رآها، همس في انكسار: لن أستطيع إكمال ما اتفقنا عليه، صرخت: لماذا؟ وحبنا؟ همس: لعلها نزوة، بكت: لم تعد تحبني أم هي ضغوط زوجتك؟ لم يخرج عن هدوئه: الأمر أكبر مني و منك، أولادي، ربما مازلت أحبك، لكن لا أستطيع الارتباط بك، صدقيني الأمر أخطر مما تصورنا، صرخت: سأقف بجانبك، أجابها في انكسار: لن يفيد، صاحت: أحبك، رد: وأنا أيضًا، لم تتوقف عن البكاء، صرخت ثانية: سأقف بوجهك حتى لا تدمر هذا الحب، هز رأسه وهو يردد: لن تفهمين، ليتك تفهمين، غادرت المكتب عائدة حين تحرك القطار بها تذكرت حديث السيدة، لم لا يكون تغيره المفاجئ بسببها هي، نعم سحرته زوجته، استولت عليها الفكرة، قفز عقلها غاضبًا، كيف تفكرين بهذه الطريقة، هل أطار الحب صوابك؟، أسكتت صوت العقل وصدرها يعلو ويهبط في استنفار، هبت واقفة، نفس المحطة التي نزلت بها المرأة، سوف أسأل عن الشيخ البهلولي، لم تجد صعوبة، وصلت ببابه، بعد ساعة سمح لها بالدخول، هتف: حبيب القلب معمول له عمل، أيقنت بسره الباتع كما قالت السيده تمتمت: بركاتك يا شيخنا والمطلوب؟ رد صائحا، الجودة بالموجود، غادرت وهي ترتجف بعد أن وضعت مبلغا، لم تحاول عده من فرط فزعها .
خلال الأسبوع بدا كعادته الأولى في هدوئه وتحاشيه أن تلتقي عيناه بعينيها، همس لنفسه: كيف كنت سأخطىء في حقها وحق نفسي وزوجتي وأولادي؟ إنها تقارب في عمرها عمر ابنتي الكبرى؟، كم كنت سأندم لو فعلت..انتبه على صوت الساعي وهو يبشره: لقد وافق المدير على إجازتك، همس لنفسه: الحمد لله، الآن أستطيع أن أمضي أسعد إجازة مع زوجتي وأولادي كما وعدتهم، رمقها بنظرة سريعة، كانت ساهمة، نظراتها تائهة وحزينة، أطرق إلى الأرض وهو يلعن وسوسة الشيطان التي جعلته سببًا في تعاستها، ليتها تفهم، هز رأسه، ستفهم يوما وستصفح .
نظرت في ساعة يدها، هبت واقفة، إنه موعدها مع الشيخ البهلولي، استأذنت في الخروج .
القطار بعجلاته الصدئة كان في انتظارها، لم تعد تسمع موسيقى العجلات، كل شيء أصبح بلا صوت، بلا لون أو طعم حولها، استقبلها الشيخ بالصياح والبخور: عملك فعلك والأسياد طالبين تطهير، ردت في خوف: لم أفهم، صاح: الجودة بالموجودة، قدامك طريق واحد عشان عملك ينفك وتزول الأسباب و ينفتح الباب، ويدخل بيكي حبيب القلب وينقفل عليك إنتي وهو الباب، حي، ردت وهي تستخلص من حقيبتها المال: وإيه المطلوب؟ صاح: لازم يعدي من فوقك قطر سكة حديد بسرعة وتصرخي و تقولي: حديد حديد بعيد، بعدها ينفك العمل وتنولي المراد .
خرجت مهرولة، وهي لا تصدق ما سمعت، كيف لها بالقطار؟ تذكرت أحد الأفلام، البطل يستلقي بين القضبان، والقطار يمر في سرعة، يقوم بعدها البطل لم يصبه شيء: ولكن هذا بالسينما، وهل أفقد حبي من أجل الخوف، والموت؟ إنني بدونه شبه ميتة، حسمت أمرها، يجب أن أفعل ما أمرني به الشيخ، بعيدًا عن المحطة اختارت المكان، التوقيت بعد غد الخميس .
هيأت نفسها للحدث، مساء الخميس، استقلت سيارة، نزلت بجوار سكة القطار، تلفتت، لم تر أحدًا، اختارت بقعة مظلمة، ألقت بنفسها بين القضبان، حاولت الالتصاق بالأرض، تحرك القطار من المحطة محدثا ضجيجا غطى على صوت أولاده ورنات ضحكاتهم، أحلامهم بقضاء الإجازة على الشاطئ استولت على تفكيرهم، سرح بخياله ، إنه لا يشعر تجاهها الآن سوى بعاطفة الأبوة ، يشعر بالذنب لأنه أخطأ في حقها، إنها تتعذب. سيطلب ترقيتها عند عودته من الإجازة، وسيطلب نقلها من القسم أيضا، لتريحه وتستريح، انطلق القطار وانطلقت معه أغاني أبنائه على صوت موسيقى العجلات الصاخبة، انضم إليهم أغلب من كان في العربة، امتزجت الأصوات في لحن صاخب.
اقترب صوت القطار، قاومت، قاومت، قاومت: يجب أن ينفك العمل ويعود لي، لقد أحببته بكل جوارحي، ليس له ذنب، لقد سحرته زوجته، الآن بعد مرور القطار سيزول السحر ويعود لي، أنا موقنة أن الشيخ البهلولي له كرامات، اقترب الصوت أكثر، موسيقى العجلات تعلو وتعلو، فكرت في الفرار، تراجعت، حبه تملكها، سيجعلها تحتمل أي شيء ولو حتى الموت، سرت قشعريرة في جسدها حين ذكرت الموت، القطار يقترب، داخل عرباته صخب، صوت أولاده يعلو، يطالبونه بمشاركتهم في الغناء، اكتفى بالتصفيق والبسمة تعلو وجهه، قسمات وجهها المكفهر كانت تعلن عن الفزع الذي تملكها، قلبها يدق، أنفاسها تتلاحق، علا التصفيق و الغناء، كاد صوت العجلات يختفي وسط الصخب، مر كالوحش الكاسر، من فوقها، سارعت دقات قلبها،لم تعد تحتمل، توقف القلب، أسلمت الروح، لازال القطار في,اندفاعه ولا زال أولاده في لهوهم وضحكهم، سعادة أنسته كل شيء

تمت

==========================================================

كشف حساب
مدخل

أمسك بالقلم محاولا سطر بعض مما يجول بخاطره، اهتز القلم، تماسك سطر بضع كلمات، رمقها بامتعاض، التقط الورقة في غضب، كوّرها قذف بها، بدأ من جديد: أحبك كانت أولى الكلمات، تنهد في ارتياح، قبل أن يكمل: أعشقك، كلمات العالم تقف حيرى حين أحاول نقل مشاعري، رمزي الأوحد للعشق، تميمتي الكبرى للسعادة، تتقاذفني أمواج الفكر، أتساءل دومًا، تنتحر تساؤلاتي في مرارة، أكان صوابًا ما فعلناه يا زهرتي؟، تتقاطع أجوبتي، أحملق في تساؤلاتي المتكررة، أعاود ترديد لحني الحزين .


حاشية

أكتبك يا لحني بعد سنين، ترى أكان صوابًا ما اتخذناه من قرارات عنترية، وبعد تشدقنا بكل الكلمات البطولية وعبارات التضحية الهلامية، أكان صوابًا؟ تسربت السنون من بين أيدينا، وتخطفتنا الأيام، لا أعلم أهي الأيام سرقتنا ؟ أم نحن الذين أضعناها؟ .
أتذكرين حين افترقنا لأول مرة؟، وتلاقينا بعد أشهر، لكننا ما استوعبنا الدرس، وعاودنا الافتراق، أتذكرين كان لقاؤنا الأول بعد أشهر مرت ثقيلة، كان كالغيث، وعاودنا الافتراق، كم مر من السنين يا حبي الثابت فوق جبيني؟، لا أعلم، فسنين عمري تحسب فقط بالأيام التي تجمعنا .
عشقي الأوحد، ما زالت تساؤلاتي كالغصة في حلقي، مازلت أنا كصاري السفينة منتصبًا، أراقب انفلات أيام العمر كما تتوالى الموجات المتكسرة، ترى هل سيصمد الصاري؟ هل ستبقى بوصلة العمر تعمل؟ أم سيصيبها الصدأ؟ .


خاتمة

لامست عجلات الطائرة الأرض، تنفس الصعداء، رمق الشمس من النافذة وقد مالت في صفرة خالها ذهبية أول الأمر، حين ترجل شعر بثقل السنين، عاود النظر إلى الشمس كانت تنثر دماءها في الأفق، عاد ببصره إلى حقيبته، حملها في هدوء، دلف من الباب، احتضنته عيناها، أحاطته بذراعيها الواهنتين، استند إلى ذراعها، تململ في حلقه سؤال، نظرت إليه، أومأت إلى الأرض، أجابته في مرارة: لن يحضروا هذا العام، رسائلهم كلها قالت ذلك، تنهد وهو يعبر باب حجرته، احتضن صورهم، انحدرت دمعة ساخنة، ردد في صمت: أكان صوابا ما فعلناه ؟ تراجع الصوت صدًى أبديًا، ولا.. إجابة .

تمت







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق