tadwina-36068622-tadwina

tadwina-36068622-tadwina

الاثنين، 8 نوفمبر 2010

السماء تلامس البحر
الطبعة الأولى
2008

أبداً لم يكن لها

لاحت منها نظره غاضبة وهي ترى يد شقيقتها وهي تفلتها من بين يدي خطيبها الذي جلس بقربها، شعر هو بالخجل أمام نظراتها الجريئة، حاول التحدث فلم تطاوعه شفتاه، هب واقفا، استأذن في الانصراف.
ارتفع صوتها وهي توبخ أختها الكبرى: كيف تسمحين له بلمس يدك؟ وقفت أختها ذاهلة وهي تحاول في خجل أن تكمم فمها بيدها، في محاوله ألا يصل صوتها لأحد بالمنزل، حاولت تهدئتها وهي تقول: لقد عقدنا القران أنسيتِ؟ إنه زوجي الآن، لم تقتنع بكلمات أختها، خفضت صوتها وهي تقول بنبرة لازالت ثائرة: لكنه ليس زوجك بعد، تبسمت أختها ولم ترد.
في زيارته التالية، حرصت أن تجلس بقربهما، في مواجهتهما تماما، حدقت فيه كثيرًا، جلسا يتحدثان ويبتسمان وهي تراقبهما بدقة، شعرت بضيق وهو يلاطف أختها ببعض الكلمات، في تلك الليلة وبعد انصرافه تساءلت لمَ كل هذا الضيق؟، ولماذا تتضايق كلما حضر وجلس مع أختها؟، كرهت أن تفصح عن مكنونات نفسها، أيعقل هذا؟ أيكون حبه قد لامس شغاف قلبها؟، حاولت إبعاد الفكرة عن رأسها، ظلت ساهرة تتقلب في سريرها، أزعجها هذا الخاطر، نعم لقد كانت تنظر إليه بإعجاب وتتمنى، لا لم تتمنَّ، ذرفت دمعة ساخنة من عينيها، لقد كان جارهم تراه يوميًا، نعم هو دومًا يحادثها بلطف، لكن هذا كان يزيدها احترامًا وتقديرًا له، دمعت عيناها وهي تحاول مجددًا طرد خواطرها ، أيعقل هذا؟ أحب خطيب أختي، بل زوجها الذي يحبها وتحبه؟، ولكن من أدراني أنه يحبها هي؟، إنه لا يفتأ ينظر إليّ أثناء جلوسهما معًا، لكن أيعني هذا شيئا؟، نعم إنه ينظر إليّ بعينين هائمتين، ظلت أفكارها تراوح بين اليقين والشك، وهي تحاول أن تطرد الأفكار المتسلطة علي رأسها، لا، ولو كان يحبني؟ لا، فماذا ستفعل أختي إنها تعشقه؟، هو حياتها كل آمالها ولكن أليس من حقي أنا أيضًا أن أدافع عن حبي؟، هزتها الكلمة الأخيرة ، ما هذا الهُراء كيف أتحدث عن حبي، أحقا أحبه؟، همست بها لكنها خرجت من صدرها، لا داعي لأن أنكر، بكت وبللت وسادتها، ظلت على حالها حتى سمعت أذان الفجر ، قامت وتوضأت، صلت وهي تبتهل إلي الله أن يلهمها فعل الصواب .
مرت الأيام ثقيلة وهي تحاول مجاهدة نفسها، تنشغل بأي شيء أثناء زيارته لهم وجلوسها معهم، صمتها، الحزن البادي بعينيها، أقلقهما، حاولا محادثتها، كانت ترد في اقتضاب ولا تلتفت، حين تختلي بها أختها وتحاول معرفة سبب حزنها، كانت تبكي ولا ترد، ثقيلة هي الأيام الحزينة في مرورها، قررت أختها وخطيبها الخروج للنزهة، حاولا معها، اقتنعت علي مضض بمرافقتهما، سألاها في لطف: أي الأماكن تريدين الذهاب إليها؟، أنتِ ضيفتنا، هزت كتفيها في غير اكتراث، أحاطاها كل من جهته، ربت علي كتفها في حنو وهو يقول آه لو تعلمين كم نحبك أنا وأختك، هز رأسه في يأس وهو يهمس، آه لو تبوحين بما يضايقك، ربما عندها ستجدين لدينا حلا لما تعانين، نظرت إلى الأرض وظلت صامتة .
في طريق عودتهم ظلت على صمتها، ضحكات أختها وخطيبها يمازحها، زرعت ابتسامة باهته على شفتيها، علت ضحكة أختها وهي تعدو هاربة من ملاحقة خطيبها، حاولت مجاراتهما، بدأت تعدو خلفهما، فجأة تسمرت قدماها، شقت صرختها الأفق، وسيارة مسرعة ترمي بجسد أختها في الهواء، لمحت بقايا ضحكة على شفتي أختها وهي تهوي مستقرة علي الأرض بلا حراك، جثا بجوارها على الأرض في ذهول، أما هي فوقفت بعيدًا ودموعها تنساب في غزارة، حينما حملت سيارة الإسعاف جثة أختها قفزت بجوارها، انطلقت السيارة وصوتها يصم الآذان، تاركة وراءها بقايا رجل ينتحب ...

تمت

=====================================================


أبو حدافه

كنت قد جاوزت الثلاثين بقليل، وكأكثر أبناء جيلي لم تتح لي فرصة الزواج لضيق ذات اليد، كنا رفقة نتكاتف علي مرارة واقعنا بالسمر والسهر، نتجمع يوميًا وننطلق لتجاذب أطراف الحديث على حدود قريتنا في فضاء واسع يشعرنا بالحرية ولو قليلا، ويطلق لضحكاتنا وسخريتنا العنان، فنفرغ همومنا وألمنا يوميًا في تلك الجلسات التي نناقش فيها كل ما سمعناه ورأيناه، عند عودتنا كنا نستشعر أننا قد ألقينا عن كاهلنا كل ما أحضرناه من هموم، لكن مع تكرار الحديث ورؤية نفس الوجوه يوميًا أصبنا بالملل وشعرنا بأن طوق الألم قد استحكم في رقابنا، فأصبحنا لا نتقابل سوى مرة كل عدة أيام. وفي ليلة من ليالي الصيف المضجرة في قريتنا النائية، كنا مجتمعين أنا والصحبة من أقراني في طرف البلدة نتسامر، حين هبط علينا، سمعنا صخبا وعراكا مختلطا بخشخشة أصوات متداخلة، قمت أستطلع الأمر فوجدته أمامي بأسماله وملابسه عجيبة الألوان ومسابحه الملتفة حول العنق، يمسك بيده عصا غليظة يتكئ عليها، رفعها في وجهي فور أن رآني، وسرعان ما خفضها حين لاحت ابتسامة على وجهي، وانفرجت شفتاه عن ضحكه مجلجلة، وأخذت الأحرف تتطاير من بين ضحكاته وهو يلتفت وراءه فلمحت امرأة تحمل طفلا وبيدها آخر تشاركه الضحك وهي تحاول تغطية وجهها بطرف ثوبها، استمرا في الضحك وهما يترنحان إلى الأرض خاصة بعدما أتي أصحابي، وتعلقت أعينهم المحملقة بدهشة بهذين الغريبين وأولادهما .
مرت أيام وهو يأوي إلي خيمة كان فد شيدها عند وصوله قرب ساحة القرية، قوته اليومي يحمله إليه أطفال القرية الذين ألفوه وتوثقت عرى الحب بينه وبينهم، حكاياته الغريبة وضحكته الطفولية العذبة، مداعباته كلها أشياء جعلتهم يتحلقون حوله يوميًا يغنون أغنياته التي يحفظها ويرددها ويقلدون حركاته ونظرات عينيه، يحضرون إليه ما لذ وطاب يلتهمه في نهم ويدفع إلى زوجته وطفليه بالباقي، زوجته لا تظهر خارج الخيمة كثيرًا لكن صوتها الجهوري وسبابها المستمر له، ولعن اليوم الذي قابلته فيه ينبؤهم دومًا عن وجودها، كنا نمر بخيمته في ذهابنا وإيابنا نجده محملقا في السماء أو منشغلا بالتهام طعامه، حركته قليلة جدًا إن لم تكن معدومة، لم نره قط إلا جالسًا مسندًا ظهره إلى شجرة ربط فيها طرف خيمته، يرمقنا بنظرة شاردة مبتسمًا، أحيانا يشير لنا بيده، فنعبر به إلى وجهتنا والأسئلة تتزاحم برؤوسنا عن سر هذا الرجل الذي هبط على قريتنا كسكان الفضاء، لا نعرف عنه شيئا ولا عن سبب اختياره لقريتنا، لكن دومًا كان كل منا يتظاهر بأن الأمر لا يعنيه ولا يصرّح بأسئلته، إلي أن ضاق صدري بتساؤلاتي في ليلة هادئة ونحن عائدون، حين لمحته جالسًا في هدوء محملقا في القمر، أسرعت الخطى نحوه، نظرت إليه وأنا ألقي التحية فتبسم وهو يشير إلي أن أجلس قبالته، وبيده الأخرى إلى أذنه كي أنصت، تملكتني الدهشة، لم أسمع شيئا، ظل يهز رأسه في انسجام غريب، جلس الباقون قريبا في صمت، همس: هل سمعت صوت القمر يوما؟، أنصت، أنصت جيدًا، إذن حاول أن تسمعه الآن، أنصت، حين صك سمعي الصمت أيقنت أن الرجل به جنة، أو مسّ من الجن، هممت بالانصراف، ابتسم وهو يصيح: أتظنني مجنونا؟ لم أستطع كتم ضحكتي، اتسع فمه عن ابتسامة عريضة، وعلا صوت ضحكته فجلجل صوتنا جميعًا في فضاء الساحة بالضحك، ساد صمت بعد برهة قبل أن يهمس: تحدث قل ما عندك، أطرقت إلى الأرض فقال: سأوفر عليك الحرج، أنا يا بني كما ترى لا أملك شيئا، ولا أتقن عمل شيء بالأحرى، فشلت في كل ما حاولت، فهمت على وجهي بعد وفاة والدي،لم أر أمي، جلدتني الحياة بقسوة وهأنذا، أغتصبها، أستبيحها، وأستمتع كما يحلو لي، لا كما تريد هي، رفع عمامته وأشار إلى شعره الأبيض: أترى هذا الشيب يا ولدي؟، إنه نتاج الحياة الطويلة التي عركتني وعركتها، لست سفيهًا أو مجنونا، لكنني أعيش حياتي ببساطة، فلمَ أعقد الأمور وأنا قادر على أن أحيا دون تعقيداتكم؟، رفع غطاءً كان بجواره وهو يتمتم: والآن عليكم بالرحيل فقد حضر سلطان النوم، ومال بجسده فاردًا الغطاء ثم أردف ناظرًا إلي: أعرف أن لديك أسئلة كثيرة، عد متي شئت، وراح في سبات .
بقيت طوال الليل أفكر في حديثه، وقد شعرت برغبة عارمة في أن ألتقيه، أن أتحدث إليه، وأسبر أغوار نفسه الغريبة والعجيبة، في الصباح وأنا في طريقي للعمل مررت بخيمته وجدته جالسًا يأكل، دعاني إلى الطعام، اعتذرت وأنا أرد سلامه في عجلة، بقيت يومي منشغلا به ومقلبًا للأفكار برأسي، بعد عودتي أخذت قسطا من الراحة، وقد وطدت العزم على أن أجالسه وحدي، اعتذرت لرفاقي عن مرافقتهم، توجهت إلى خيمته حاملا معي رغبتي المحمومة في الاقتراب أكثر من عالمه، تبسّم حين رآني قادمًا ورفع عصاه صائحًا في الأطفال المتحلقين حوله بأن يرحلوا، وليعودوا محملين بالأطايب التي تجود بها أمهاتهم، جلست بقربه، بدا سعيدًا بمجيئي، صاح: شاي للأستاذ يا بت، فجاءه الرد سيلا من الشتائم والصياح، سبق خروجها الغاضب، وما إن رأتني حتى غطت وجهها بطرف ثوبها وهي تكمل صياحها، ثم اعتذرت لي وهي تكمل: أصل البعيد عامل فيها عمدة، طيب يقوم يشوف شغله، أو يكد زى كل الرجالة، وألا طول عمرنا هنفضل كدا شحاتين، ثم ختمت حديثها: لا مؤاخذة يا أستاذ أعملك الشاي حالا .
نظر إلي سعيدًا وهو يتمتم: أرأيت نساء مثل زوجتي في حياتك؟، كتمت ضحكتي وأنا أهز رأسي نافيا، قال مستهلا حديثه: لقد أحببتك يا بني، وشعرت بحيرتك وكم الدهشة الذي بعينيك، وتوقك إلي المعرفة، أتعلم أنا لم يكن لي يوما صديقا سوي نفسي، ربما نصبح يوما أصدقاء، نظر إلي عينيّ بعمق وأردف: لا تتعجل، سنكون كذلك رأيت هذا في عينيك، والآن ترى ما تحب أن نتحدث فيه؟ الحياة، النساء، السياسة، أم المال؟ .
تأملته في راحة وابتسامة باهتة تلوح على شفتيّ، ثم باغته بسؤال عن زوجته كيف التقاها ولم يصبر على لسانها وسبابها؟، اعتدل وكأنه يهم بإلقاء خطبة، ثم نطق في بساطة وهو يبتسم: النصيب يا ولدي النصيب، وخفف من حدة صوته وهو يقول: وما الفرق يا ولدي؟، النساء كلهن واحدة، لمعت دهشة في عينيّ، لمحها فاقترب من أذني وهو يهمس: الأنثى زهرة حين تتفتح تتمنى مجرد لمسها، ثم تقترب منها وتحاول ضمها واستنشاق عبيرها بحرص ورهبة من أن تتأذى من لمساتك، فإذا اقتطفتها وملكتها تذهب بهجتها، وتستشعر وخز الشوك من فرعها، تدمي يدك لكنك لا تقدر على الإفلات من نسيج حبك لها وحرصك علي قربها .
قطعت حديثه إطلالة زوجته، قدمت الشاي وهي تداري ابتسامة خجل بطرف ثوبها، همست إليه: لكنك تحبها وهي كذلك على ما يبدو، أطرق للأرض وهو يتمتم: وهل لها غيري أو أنا لي غيرها بهذا العالم؟، بادرته بسؤال عن حياته وهل تعجبه حياة التسول؟ وكيف لم يتسن له أن يجد بيتا يأوي إليه، فتبسم وهو يلوح بيده جهة الخيمة: أليس هذا بيتا؟، بيتي يا ولدي هو حضن زوجتي، وسكني عيناها، أما هذا الفضاء الواسع فهو ملكي لما أحدد وأكتفي من ملكوت الله الرحب بأربعة جدران، ومن قال لك إنني أتسول أحدًا أو أطلب يومًا من أحد؟ والله يرزقني، أطرقت للأرض لعدم اقتناعي بما يحاول أن يسوقه من حجج بذكاء حاول الانتقال إلى موضوع آخر، أشاح بوجهه بعيدًا وهو يتمتم: ترى هل سمعت شيئا عن التعديل الوزاري؟ عانقت الابتسامة شفتيّ وأنا أنظر إلى القابع أمامي في أسمال بالية، ويتساءل عن أمر قد لا يهم الكثيرين أو يعنيهم، لكنني فضلت أن أسايره لأعرف إلى أين يأخذنا الحديث، أجبته: نعم هناك تعديل وزاري محدود، لكن أيشغلك هذا الأمر؟ لم يجبني لكنه أردف بسؤال: كم بلغ عدد ضحايا إعصار تسونامي، فغرت فاهي وأنا لا أكاد أصدق الرجل في شبه عزلة لا وسائل اتصال بالعالم لديه، حتى إنني أكاد أجزم أنه ليس لديه مذياع، التفت إلي وهو يبتسم، وهمس من جديد: لا تتعجب يا ولدي الذي يريد أن يعرف سيعرف، والذي يريد أن يتعلم سيتعلم، تعثرت الأحرف على لساني، وبقيت ساكنا للحظات، ثم باغته بسؤال عن اسمه، ضحك ضحكته العالية وأخذ نفسًا عميقا قبل أن يهم بالكلام: يا بني أنا كنت في شبابي أفضل من يرمي بالحدافة، وكي أوفر عليك فهذه الحدافة عبارة عن حبل طويل مربوط بآخره قطعة حديد هلالية الشكل، نرمي بها لنلتقط الأشياء الساقطة في عمق أو المعلقة في مكان عال كشجرة، وكنت أمتهن تلك المهنة إن عددتها مهنة! وأجني من ورائها قوت يومي، وسرح بخياله كمن يستعيد مجد الأيام الخالية، وهمهم ببعض الكلمات، فهمت منها كيف كان التصفيق يصم آذانه عندما ينجح في التقاط شيء ذي قيمة من أول مره خاصة إذا كان هذا الشيء يخص شخصًا ذا أهمية، ثم انتبه لي وهو يقول: لهذا أطلق علي هذا الاسم ولازمني حتى إنني كدت أنسى اسمي الحقيقي، نظر مليًا إلى عينيّ ثم قال: وأنت لمَ لمْ تتزوج حتى الآن؟، تبسمت وأنا أجيبه: لكن كيف عرفت أنني لم أتزوج، قال: للعيون لغة لا يفهمها إلا القليل، قلت: كيف لي بتكاليف الزواج، ومتطلباته؟، هز رأسه في استنكار: إذن فقد استسلمت؟، لم أجبه، أردف: هل رأيت من هو أفقر مني؟، لكني لم ألعن ظروفي ولم أرهن حياتي، لكن كما أرادتني هي أن أعيشها ، قلت: لكن ربما ظروفك وطبيعتك مختلفة، رد في بساطة: ترى من جعلها مختلفة، أنا؟، لا يا بني لكنني عشتها باختلافها، لم أستسلم يومًا واقتنصت كل ما هو جميل في هذه الحياة، كان الوقت قد تأخر فنظر إلي وهو يغمض عينيه ويتمتم: سلطان النوم يا ولدي، تبسمت وأنا أهب واقفا وأقول: سأزورك غدا إذا سمحت لي، همس قبل أن يغط في نومه: إذا بقيت أنا إلي الغد فأهلا بك، هززت رأسي في تعجب ومضيت .
في طريق عودتي ظللت أقلب كلامه في رأسي وأقارن بين طريقته في الحياة ونفسه بتركيبتها الغريبة، التي تتعانق فيها كل المتناقضات بانسجام عجيب فيحيا سعيدًا هانئ البال، وبين حياة فرضتها علي نفسي وتقوقعت بداخل إطارها باستكانة دون أن أسعى ولو لمرة واحده إلى التغير، أو محاولة الانفلات من دائرة الاستسلام والضعف التي ألفتها وألفتني، تساءلت في سخرية وأنا أستشعر وَهنا يخالط قلبي: أتراني قادرًا يومًا على التحليق ؟
في الصباح مررت بمكان خيمته فلم أر شيئا، اختفت الخيمة والرجل وكأنه حلم وانقضى، هممت أن أكمل طريقي إلي العمل كعادتي، لكن خطواتي تجمدت، كان هناك شيء ما قد تغير، وصدى كلماته الأخيرة تطن في أذنيّ، قفلت عائدًا وقد شعرت لأول مرة أنني أملك جناحين، وبدا نسيم الحرية يخالط كياني، ويدفعني كي أكسر الطوق الذي ضربته حول نفسي بعد أن دبت الحياة في قلبي من جديد .

تمت


=====================================================

آلام البغايا

تثاءبت في دلال وغنج وهي تزيح الغطاء عن جسد مرمري، تاركة وراءها جثة ممدة بلا حراك، تبسمت وهي تغمغم: التاسع، نظرت إليها في تشفٍ وابتسامة تعانق دمعة أطلت من عينيها، ارتدت ملابسها، خطت إلى الطريق، صافحت عيناها صور الدمار في كافة الأنحاء، يتجولون حاملين سلاحهم في صفاقة، تبغضهم، تتمنى لو تغرز أظفارها في أعناقهم جميعًا، تبتسم في مرارة حين يقتربون، جواز مرورها، جسدها وتلك الابتسامة التي تشي بالكثير، طول مدة مكثهم في بلادها جعلهم عطشى، تعميهم رغباتهم المحمومة، تضللهم فتنتها وجمالها، لم تتغير كانت ولازالت فتاة ليل .
عرجت في طريقها علي إحدى الحانات في محاولة لإخفاء وجهتها، خرجت بعد قليل قاصدة بيت أحد أفراد المقاومة، طرقت الباب عدة نقرات قبل أن ينفتح ويظهر أحد جنود الاحتلال بوجهه القبيح، لطمها بقسوة ثم كبلها قبل أن يصطحبها خارجًا، لمحت رفيقها مقتولا في إحدى الزوايا قبل أن تغادر، بعد تفتيش منزلها والعثور على جثة رفيقهم مقتولا، ألقيت في حجرة مظلمة بعد أن أشبعت ضربًا، انهمرت دموعها ألمًا وحزنا، بقيت ليلتها مستيقظة قلقة لكل حركة خارج سجنها، استسلمت لأفكارها، سرحت بخيالها وهي تستعرض حياتها منذ أن وعت ما حولها واستوت مهرة متمردة على واقعها، مر شريط حياتها أمام عينيها وكأنه حدث بالأمس فقط .
لم تدّع يومًا أن ظروفها الصعبة دفعتها لهذا الطريق، لقد اختارت طريقها بنفسها، ربما تمردها المتأصل في تكوينها الأنثوي، جمالها اللافت، وتهافت كل شباب بلدتها الصغيرة لإقامة علاقة معه، ربما ساعد هذا في تحديد ما تريد، قسوة والدها وشدته جعلاها تلوذ بالفرار، حطت رحالها في بغداد، ذابت في الزحام لفترة، لكنها سرعان ما أثبتت تميزها، وتفردها، ذاعت شهرتها خاصة بين الأجانب المنتشرين في ربوع العاصمة، عاشت حياة مرفهة، ترفل في الثراء، وتحظى بحماية قوية بعدما توطدت علاقاتها بأركان القوة .
بين عشية وضحاها تبدلت الأمور، لم تفهم يومًا حرفا مما يقال في السياسة، ولم تتعب رأسها الصغير في فهم ما يدور أو سبب حرب بلادها ضد جيرانها، لكن هذه المرة شعرت بتغير كبير، رحل كثير من أصدقائها، وانشغلت الصفوة من أركان الحكم عنها، ظنت أن الأمر آنيّ وستعود الأمور لحالها، تسارعت الأحداث، ازداد تجهم الأوجه، وصارت لا تسمع إلا حديث الحرب، الكرامة، الوطنية، حاولت استيعاب الحدث، ذكاؤها الفطري ساعدها، شعرت بأن الوطن مهدد من قوى أكبر وأظلم .
أيقظتها أصوات المدافع عند الفجر بدت مدينتها وقد تحول ليلها إلي نهار من لهيب يتساقط بلا هوادة، شعرت بالخوف وانفجرت دموعها الحبيسة سنينا، مرت أشهر، هدأت الأمور قليلا، تغيرت الأحوال، وطنها محاصر، وهي محاصرة بالوحدة والأحزان، انشغل الجميع عنها، وضاقت بها الحياة، سقطت مريضة وهي تشاهد وطنها يتحول إلى ثكنة عسكرية، لا عطور ولا أدوات تجميل، نحن محاصرون، لا دواء، نحن محاصرون، لا أمل، نحن محاصرون، أنهكها المرض، انفضت البقية الباقية من حولها، تسولت لقمة العيش، وتوسدت الأرصفة .
عشر سنين مرت، استيقظت على صوت الانفجارات من جديد، أضاءت سماء بغداد فلم تعد تفرق بين ليل أو نهار، استجمعت قواها، رأتهم يوزعون المؤن والسلاح على الجميع، دبت الحياة فيها من جديد، لملمت أشلاء نفس كسيرة، داعبتها خيالات الماضي، تذكرها أحد كبار الضباط أثناء تجواله، تبسم في ألم، كلنا جنود، فداء لهذا الوطن المجيد، تنقلت بين سرايا المقاومة الشعبية، شعرت بأن بعضًا من آدميتها قد رد إليها، ازداد لهيب القصف وقسوته، وازدادت صلابة المقاومة، عادت الروح إليها، أيقنت بالنصر .
كانت مصدقة لكل حرف يقوله القائد، وكانت تنظر إلى أبواق الدعاية التي تبث ليل نهار على أنها الواقع والحقيقة الصادقة، وانقلب الأمر بين عشية وضحاها، وجدت المحتلين في أزقة بغداد وشوارعها، رأت بأم عينيها الدبابات تسير في الشوارع بلا رادع، بكت بحرقة، انتحبت على الوطن الذي ضاع والأمل الذي خبا، لكنها وجدت عزاءها في استمرار بعض جيوب المقاومة، انضمت إليهم وبدأت العمل من جديد، ضيق جنود الاحتلال الخناق، وجدت الحل، لتستدرج واحدًا من الجنود بعيدًا، ثم تقتله، وجدت مساعدة كبيرة من رفاق الجهاد، ازدادت خبرة وثقة، أصبحت تنفذ عملياتها لوحدها، فقط تطلب المساعدة للتخلص من الجثث لتتمكن من قتل المزيد منهم .
كان هذا الأخير التاسع الذي تتمكن من استدراجه وقتله بالسم في بيتها، لم يشك أحد في أمرها، كانت تمضي اليوم كله في الحانة وتتقرب من هذا وذاك حتى تتمكن من أحدهم، تواعده وتصطحبه إلى بيتها، مرقده الأخير قبل أن تجهز عليه، كانت تشعر بنشوة بعد أن تخلص وطنها من أحد الغزاة الباغين، تشعر بأن وطنها مستباح، كما هو جسدها، ربما شعورها بالعار مما هي فيه دفعها للتطهر، وكان هذا التطهر صعبا فأرادت أن تطهر الوطن لعلها تحقق بعض الطهر لذاتها .
أفاقت من شرودها على أول خيط لضوء الفجر، اخترق نافذة صغيرة في أعلى الحائط، مسحت دموعها المنسابة، قررت ألا تظهر لهم ضعفها وآلامها، حين فتح أحدهم الحجرة عليها صباحا، وجدها جالسة في كبرياء، مد يده إلى صدرها بصقت في وجهه وهي تلعنه، توعدها وهو يهم بالخروج .
أفاقت متوجعة وهي تشعر بجسدها يؤلمها، فتحت عينيها بصعوبة، اعتدلت جالسة تشعر بآلام الدنيا تجتاح الجسد، أبصرت بعين نصف مفتوحة من آثار التورم امرأة في الزاوية المقابلة، تبسمت في تودد، بادلتها ابتسامة مذعورة بعينين ذائغتين، حين أمعنت النظر، وجدت حطام امرأة، آثار التعذيب، وذل العار يكسوها، لا تكف عن التلفت والبكاء، سألتها هامسة: أين نحن؟، أجابت في ذعر: إنه سجن بوغريب، هكذا سمعتهم يتحدثون، شعرت بالغثيان، لكم سمعت عن فظائع ترتكب فيه، من يدخله مفقود لا يعلم عنه شيء، سمعت صرخات مختلطة بضحكات هستيرية، انكمشت رفيقتها وانتابتها نوبة بكاء، تعرف أن دورها آت .
انتظرت أياما عانت الجوع والخوف، جاء دورها، انفتح الباب وبرز منه جنديان بسحنتهما البغيضة، اتجها صوبها، قاما بجرها عبر الممر، صكت أسماعها أصوات الصراخ والأنين مختلطة بضحكات السكارى والشواذ من الجنود، حين وصلت صدمها المشهد، نساء ورجال عراة، بعضهم مكبل والبعض تسيل الدماء من جسده ووجهه، البعض فقد القدرة على الوعي أو استيعاب ما يحدث، والبعض الآخر غطت ملامحه علامات الذهول والانكسار، اقترب أحدهم منها سألها بلغة نصف عربية: أين باقي رفاقك؟، صمتت وهي تنظر إليه في ازدراء، أعاد السؤال وهو يركلها بقدمه، حاولت التماسك، خانتها دمعة سقطت من فرط الألم، أشار لأحدهم أن يجردها من ثيابها، صرخت وهي تنشب أظفارها في عنقه، حاول التخلص، هرع إليه زملاؤه، لم يفلحوا في تخليصه من بين يديها، واتتها قوة غريبة، أخرج سلاحه، صوبه إلى رأسها، لم تفلت يديها، صراخ الجندي جعله يطلق النار، سالت دماؤها، شعرت بالدماء تطهر بعضا منها، سقطت وابتسامة تغطي الوجه الحزين .


تمت
===================================================

الرحلة




تململ في جلسته خلف عجلة القيادة ولهيب الشمس يلفحه عبر النافذة، تلفت يمينا ويسارًا يبحث عن مطعمه المفضل على بعد أمتار وجده كما هو بواجهته الأنيقة وديكوراته البحرية الرائعة، أوقف محرك السيارة، اتجه صوب المدخل، انتقى طاولة منعزلة، جلس إليها والتقط قائمة الطعام، تفحصها بسرعة فقد كان يعرف بغيته، السمك المشوي والأرز، قلب صفحة الحساء، تسمرت عيناه فوق العبارة، أعاد قراءتها ووخز بصدره يتصاعد، انحدرت دمعة وهو يتذكر رفيق عمره الذي اختطفه الموت منه ومن شبابه، الحساء الحساء، كانت دائما أولى كلماته حين يستوي جالسًا ويبدأ في تفحص قائمة الطعام، قفزت إلى مخيلته الفتاة فارهة الطول التي كان صديقه دومًا يداعبها حين تهم بتسجيل طلباتهم، التفت يمينا ويسارًا فلمحها، تبسمت وهي تتجه صوبه، كلمات الترحيب المضادة أتبعتها بسؤال عن رفيقه وسبب غيابهما لفترة طويلة، اختنقت الكلمات بحلقه، اغرورقت عيناه، تأسفت وهي تغادر معتذرة، وضعت الطعام أمامه، شعر بغصة في حلقه وود لو يغادر، تراجع، الجوع يشتد عليه، ازدرد الطعام في غير تلذذ، هم بالمغادرة، لمحه عن بعد، تبادلا النظرات قبل أن يتجه صوبه مرحبًا، لم تتغير فيه غير تلك الخصلات البيضاء التي ظهرت علي فوديه، جلس إلى الطاولة، تساءل عن أخباره، وما الذي أتى به إلى هذا المطعم، رد في اقتضاب: لقد تعودت الحضور منذ زمن ولكنها الأيام وما تفعله بنا، كلما سنحت لي فرصة خلال الإجازة كنت أحضر ولكن انقطعت منذ فترة، وأنت؟، رد ضاحكا: أنا صاحب هذا المطعم، أشار إليه بالبقاء مستأذنا للحظات، سرح بخياله إلى السنين الخوالي، كيف كان صاحبه هذا؟، كيف كان طموحه وحزنه لمحدودية إمكاناته؟، كيف تشاركا يومًا في مشروع صغير أثناء دراستهما؟، وكيف فشل المشروع وخسرا كل ما لديهما؟، وتلك الفتاة الثرية التي كانت تلاحق صاحبه ربما تزوجها، ربما هي سبب ما هو فيه الآن، قطع تفكيره وصول صاحبه، بصخبه كالعادة، لم يتغير عن أيام شبابه سأله مازحا: أين وصلت؟، حاول كبت تساؤلاته التي ازدحم بها رأسه تبسم في خجل والأسئلة تلح برأسه، أردف صاحبه: ستكون ضيفي اليوم هل لديك مانع؟، حاول الاعتذار، قاطعه: لا فائدة ستبقي معي ولو لوقت الغروب، إنه منظر رائع من كافتيريا المطعم المطلة علي الشاطئ هيا بنا، أريد أن أعرف أخبارك، أين تعمل الآن؟، رد في فتور: لا أعمل لقد عدت بعد سفر وترحال وغربة استمرت عشر سنوات ومضى عام وأنا أبحث عن فرصة أستثمر خلالها أموالي، حين وصلا للجهة الأخرى، عاجله بقوله: هل تذكر تلك الفتاة التي، لم يكمل ضحك بصوت عال نعم إنها الآن زوجتي وأم أولادي، الفتاة التي كنت على علاقة بها أيام دراستنا، تزوجت ونحن لا نزال بالجامعة، لعنت الظروف التي جعلتني عاجزا عن حماية حبي أظلمت الدنيا بوجهي، حتى جاءت هي، أخذت بيدي، توطدت العلاقة بيننا، شعرت بالراحة حين فاتحتها في أمر ارتباطنا وإمكاناتي المحدودة طارت فرحا، يسرت لي كل شيء، حفلة الخطبة سيتكفل بها أهلها، الشبكة تكفي دبلتين وستقوم بتغيير كل ما لديها من حليّ ليكون ضمن ما أقدمه في حفلة الخطوبة، سارت الأمور كما أردنا، شعرت بالامتنان لها،لم أشعر بحب جارف كما كنت أشعر تجاه فتاتي الأولى، ولكني تكيفت مع الوضع الجديد، تزوجنا بعد التخرج، هدية والدها عقد عمل بإحدى دول الخليج، فقط عام،لم نحتمل، عدنا والمستقبل معتم أمامنا، لم يتركنا والدها، ساعدنا بالمال، بدأت بمطعم صغير وشقة من حجرة واحدة، توالت الخطوات حتى اشتريت هذا المطعم، لمح ابتسامة سخرية فوق شفتيه، أردف: أعلم أنك رفضت وضعا مماثلا، ظروفك لم تكن كظروفي، صمت برهة: قل لي إلى أين وصلت الآن بعد أن ذقت آلام الغربة؟، كل هذه السنين، هل لديك أولاد، لا..، بل ربما لم تتزوج بعد، وإلا لكانت معك زوجتك الآن، الحياة لا ترحم، قطار العمر لا يتوقف، صمت فجأة وهو يشعر أن ضيفه اختنق من كلماته، أسف لصراحته المفرطة، ولكن، أشرت إليه: لا تقل شيئا إنك محق بكل ما قلته، نظر إلى ساعته، هب واقفا: أستميحك عذرًا يجب أن أنصرف، ودعه على وعد بلقاء ليتعرف إلى أسرته، قاد سيارته وهو لا يعرف أين يتجه، ماذا سيفعل؟، قلب مواجعه حديث صاحبه، اتجه إلى منزله صعد الدرج ، عقله ما زال منشغلا بما دار، ارتمى بجسده فوق السرير، عاودته الأفكار، هب واقفا اتجه للمرآة طالع وجهه، بعض الشعيرات البيضاء تسللت إلى رأسه في غفلة منه، تساءل بصوت مسموع، بماذا أبدأ؟، الزواج، أم العمل؟، علت ضحكته، أبدأ رائعة تلك الكلمة، البداية لا تكون لمن هو في مثل عمري، انطلق إلى حجرة المكتب التقط ورقة وقلمًا، أخذ يدوّن ويسجل، يعيد ترتيب الأرقام، كلت يداه، مزق الأوراق، لا يستطيع أخذ قرار محدد، الأفضل أن أبدأ بالعمل، ابتسم لكلمة البداية من جديد، ليكن العمل أولا، وسنين العمر، أيكون هناك وقت بعد النجاح للزواج؟، أمسك برأسه يكاد يتصدع من أفكاره المتضاربة، ليترك كل شيء للزمن همس: تلك هي سلبيتك المعهودة، يموت كل شيء مع مرور الوقت، حتى تلتقي بصديق آخر يذكرك بذاتك، إذن فليكن العمل، حسم أمره، في الصباح ومع إشراقة الشمس نهض نشيطا، على غير عادته، اتجه للسيارة، كان سعيدًا بقراره، أخيرًا اتخذ قرارًا، أدار محرك السيارة، أخذ يستمع للأغاني المنبعثة من راديو السيارة في نشوة، حين وصل، قفز من سيارته في حيوية، اتجه صوب المطعم، وجده قابعا بين أوراقه، ألقى التحية ثم أردف في سعادة: هل لي من وقتك قليلا؟، نفض يديه من الأوراق ونظر إليه باهتمام عاجله بقوله: أود أن تساعدني لقد قررت أن أستثمر أموالي وأعتقد أن افتتاح مطعم ممكن أن يناسبني، نظر إليه في دهشة: ولكن هل درست المشروع؟ رد في ابتسامة: لأجل هذا أتيت إليك، قطب ما بين حاجبيه قليلا ثم قال في تردد: هل توافق على مشاركتي؟، لدي دراسة لتوسعة المطعم وتحديثه، كان ينقصني المال لتنفيذها، رد في لهفة ولكن سأحتفظ لنفسي بحق الإدارة، أنت تعلم أن لا عمل لي، قاطعه ليس لدي مانع فأنا لدي أعمال أخري وليس لدي وقت لمتابعة المطعم، إنني أحضر فقط للمراجعة وحل ما يطرأ من مشاكل، تراقصت الفرحة في عينيه: إذن اتفقنا، تسارعت الخطوات، سارت الأمور كما كانا يخططان لم تمر سنتين حتى انتهت التوسعة واستقرت الأمور، حين طالع المرآة وجد نفسه أصغر بعشر سنوات، عادت إليه حيويته، تساءل في ابتسام: ألم يحن الوقت؟، هز رأسه: ليس بعد المهم تحقيق أقصى نجاح حتى أتفرغ لأسرتي، إذا تزوجت الآن لن يكون كل وقتي لهم أعجبته الفكرة، أعطى وقته لعمله، صار أكثر خبرة في تسيير الأمور، مضت سنوات ثلاث أخرى، فاتح شريكه برغبته في افتتاح فرع آخر، وافقه على الفور، اتسعت شهرتهما، لم تمض السنة السابعة حتى أصبح لديه هو وشريكه ثلاث مطاعم أخرى ناجحة، كان لا يخرج من نجاح إلا ويدخل في آخر، هذا الصباح كان منشرحًا كعادته، حين وصل إلى مكتبه وجد شريكه بانتظاره متوترًا، سأله في لهفة: ما بك؟، رد في فرح مشوب بالتوتر: ابنتي خطبت، قام إليه مهنئا: وهل هذا يقلقك أم يفرحك؟، رد: لقد حُدد الأسبوع القادم موعدًا لحفلة الخطوبة، علت ضحكته وهو يردد: لقد أزعجتني حين رأيتك ظننت أن مكروها قد حدث، بادره: لا أعرف ماذا أفعل إنها المرة الأولى؟، ربت علي كتفه: كن مطمئنا لا داعي للقلق سأكون معك، مضت ترتيبات حفل الخطوبة كأحسن ما يكون سارت الأمور كما كان يتمني صديقه، في نهاية الحفل شعر بالإرهاق، قام مغادرا، احتضنه صديقه شاكرا لكل ما فعل، مضى في هدوء، حين دلف إلى شقته طالعته صورته في المرآة، كان الشيب قد غزا رأسه بكامله، أطرق إلى الأرض، عاود التطلع لنفسه في المرآة، صدمته ثانيا، حاول النوم لم تطاوعه جفونه، ظل مستيقظا حتى الصباح، ارتدى ملابسه، اتجه صوب المطعم، دفع الباب فتح الخزينة بصعوبة أخرج ما بها جلس يحصي، تعب، أسند رأسه للخزينة، كالعادة يغلق الباب، لا يجرؤ أحد على إزعاجه أو فتح الباب حسب تعليماته الصارمة، في المساء حضر صديقه، اتجه إلى مكتبه، حين فتح الباب ضاحكا، تسمرت قدماه، وجده محملقا في الأموال بلا حراك .


تمت

=======================================================


السماء تلامس البحر

وقف ساهمًا وهواء البحر البارد يداعب ملابسه، قطرات المياه المتناثرة من ارتطام الموج بصخور الكورنيش، تطول وجهه، طفرت دمعه ساخنة من عينيه، شقت طريقها عبر وجنتيه وسقطت، عندما رفع وجهه للسماء، تساءل في حيرة إلى متى؟، زفر آهة، وصدى سؤاله مازال يتردد في جنبات الفضاء .
حتى أمس كان سعيدًا بملابسه البسيطة، حذائه الذي لم يفكر في تغييره قرابة العام، هيئته الرثة لم تكن تعني له الكثير، كان يؤمن بما يقول ويردد: المهم الجوهر، هو الأفضل دومًا، خلال الثلاث سنوات المنصرمة، محبوب، له الكثير من الأصدقاء، يفتخرون بوجوده بينهم، انتخبوه أخيرًا لرئاسة إحدى جمعيات النشاط بالكلية، ليته ما وافق .
في أول اجتماع التقاها، جميلة، هادئة، بسيطة رغم ما يبدو عليها من علامات الثراء، بعد انتهاء الاجتماع، وكزه زميله وجاره في الاجتماع ثم غمز بعينه وهو يشير إليها، لم يفهم، بعد يومين التقاها، نظراتها كلها إكبار واحترام، حياها مبتسمًا ومضى في طريقه، سأله صديقه بعد أسبوع: الأخبار إيه؟، لم يفهم ما يعني، أعاد السؤال: البرنسيسة، ازدادت حيرته وطغت علامات الاستفهام على وجهه، ضحك صديقه وهو يحثه على الحديث: أخبارك مع بنت المليونير، تلعثم: تقصد؟؟، رد صديقه في سخرية: نعم أقصد، ألا تعرف أنها بنت صاحب أكبر مصانع الحلويات في البلد ...؟ فغر فاه في ذهول، تركه صاحبه بعد أن ضاق من صمته .
أذهلته المفاجأة لكنها أحزنته، هكذا لا أمل حتى في الاقتراب منها، مرت الأيام وهي على حالها تقابله بابتسامة، يحترق خجلا أمام نظراتها وهو يراها تهبط من سيارتها في باحة الكلية، أثوابها لم ير أيا منها عليها لمرتين متتاليتين، اتجهت اليوم صوبه، حدثته بلهجة جدية، طلبت منه اصطحابها للقاء أحد الكتاب الذي سيكون ضيفا بإحدى الندوات التي يقيمها واحد من الفنادق الكبرى، لقد أخذت منه موعدًا لعقد ندوة مماثلة تشرف عليها الجمعية، يجب أن تقوم بتقديم الدعوة بصفتك رئيسًا للجمعية، سألها عن موعد الندوة ومكانها، ابتسمت وهي تعرض أن تمر عليه لاصطحابه في طريقها، اعتذر في لطف، ودعها على أن يلقاها أمام الفندق .
ها هو الآن لا يفصله عن الموعد سوى نصف ساعة، فكر في هيئته الرثة وملابسه البسيطة، حاول أن يتراجع، أن يهرب، سخر من نفسه، منذ متى والهروب طريقته في معالجة أموره، استجمع شجاعته، سار متجهًا إلى الفندق، نظر إلى ساعته في قلق، اقتربت سيارتها في هدوء، لمحها تنزل، أناقتها، حليها، رائحة عطرها، سيمفونية رائعة من الألوان الهادئة والعطر الراقي، ابتسمت وهي تشير إليه، تعثرت خطواته وهو يهم بالدخول، عالم حالم، ردهات الفندق المتلألئة بأنوار كريستالية، انحناءات الموظفين مع الابتسامات الهادئة اصطحبتهم حتى القاعة التي يقصدانها، ظل منشغلا طوال الندوة، حين انتهى الضيف، قام الجميع لتناول العشاء علي شرف الضيف، جلس في مواجهته، بعد عبارات التعارف والترحيب، قدم إليه الدعوة، قبلها شاكرًا، ساد صمت للحظات قبل أن تهمس داعية إياه لاصطحابها في نزهة بعد انتهاء العشاء، شعر بقشعريرة تسري في جسده، سقطت منه ملعقته، اضطرب، حاول مد يده لالتقاطها، ناولته أخرى وهي تبتسم، ويدها الأخرى تصده في رقه عن الانحناء، كررت كلماتها وهي تنظر إلى عينيه، زاد اضطرابه، أومأ برأسه وهو يرد بالإيجاب، اصطحبته عند خروجهما إلي سيارتها، سارت بموازاة الكورنيش، لأول مرة يراه من خلال زجاج السيارة، وبهذه السرعة، مختلف، مصطنع، حتى الرذاذ الذي كان يبلل وجهه افتقده، كان يشعر بأنه جزء من هذا البحر، طال صمته، ابتسمت وهي تحاول إيجاد طرف لحديث يشق الصمت السائد بينهما، كلماته المقتضبة يغلب عليها الحياء، أوقفت السيارة، ابتسمت وهي تهم بالنزول متجهة إلى البحر، تعلم كم هو عاشق له، تبعها في هدوء، صمت للحظه ثم أردف: ترى أصحيح أن السماء تلامس البحر كما يظهر لأعيننا؟، ردت وهي تنظر إلى عينيه: ربما إذا كانت إرادة البحر والسماء أقوى مما بينهما من مسافة، أطرق للأرض وهو يردد: ليت للبحر إرادة، كالإرادة التي للسماء .
تمت

======================================================


ثنائية الانعتاق والحضن

أفاق على قبلة طبعتها على جبينه، تبسّم وهو يحاول أن يفتح عينيه، حملق في وجهها، لمح بين ثنايا ابتسامتها فتاته التي عشقها يومًا، عاجلته بقبلة أخرى، همست: أحبك، أحاطته بذراعيها وهي تهمس: كل عام وأنت بألف خير، اليوم ذكرى زواجنا العاشرة، قام متثاقلا، اتجه إلى دولاب ملابسه، أخرج هديته إليها، تبسمت فرحة وهي تهم بفتحها .
كعادته جلس يحتسي قهوته في الشرفة، بعد أن أخذ حمامه اليومي، رمقها بنظرة مترددة، دق قلبها ونظراتها تستحثه على الكلام، تعرف تلك النظرة، وتعرف أن وراءها الكثير، تراجع في اللحظة الأخيرة،لم تلح، ابتسمت في رضا المغلوب على أمره، تعودت ألا تلح، قامت إلى المطبخ، تبعها بابتسامة باهتة، أطلق بصره عبر الشرفة، السحاب وخيالات البنايات التي تظهر متضاءلة عن بعد، تنهد، كيف سيفصح لها؟، يعلم مدى حبها له، هو أيضا، كان يعشقها، أو ربما لا يزال بداخله بعضًا من حبه لها، لكنه سئم، يريد أن ينعتق، أن يغير، أن يكسر روتين حياته الذي كبله طوال هذه السنين، لكن كيف؟، لقد جعلت منه محورًا لحياتها، تستمد بقاءها من وجوده بجوارها، ربما قتلها إذا أخبرها، لقد حدثته نفسه بأن يختفي، يهاجر بعيدًا، يسافر إلى غير رجعة، لكنه أشفق عليها من البحث و.. الحزن، وها هو يشفق عليها الآن، إذا واجهها، كيف سيفهمها؟، كيف سيدافع عن نفسه؟ وكيف ستقتنع أنها ليست السبب؟، إنما هي نفسه التواقة للحرية .
خطرت له فكرة، لم لا يخبرها بعزمه على السفر لبعض الوقت؟، لكن ما حجته وإلي أين؟، حك رأسه وابتسامة رضا تعلو وجهه باحثا في ثنايا فكره عن كذبة منمقة تقنعها، نعم سأذهب لمسقط رأسي لتفقد أحوال الأرض الزراعية التي ورثتها، ولا أعلم عنها غير ما يأتيني من ريعها كل عام، حين أخبرها علت الدهشة وجهها وهي تسأله وما الذي ذكرك بها الآن؟، كان قد بدأ في إعداد حقيبة سفره، ساعدته وهي تسأله في هدوء عن المدة التي سيمضيها، تلعثم وهو يحاول أن يجد إجابة، تشعر به وقلبها يحدثها بأن هناك ثم أمر ما، ودعته بقبلة .
حين صافح وجهه هواء الطريق، شعر بسعادة غامرة ، اتجه إلى أحد الفنادق، حين استقر في غرفته تنهد في ارتياح، همس في فرح: أخيرًا، تمدد فوق سريره، بقي على حالته المسترخية تلك حتى غلبه النعاس .
أفاق صباحًا على طرقات أيقظته، فتح عينيه محاولا استيعاب المحيط حوله، تذكر ليلة الأمس، قام متثاقلا، همس للواقف بالباب: أريد فطوري هنا، بعد أن فرغ من حمامه، وجد الفطور قرب الشرفة، أخذ نفسًا عميقا وهو ينظر إلى الأفق، تنهد في ارتياح ثم جلس، كل شيء يبدو جديدًا هذا اليوم، حين مد يده لإبريق الشاي تخيلها أمامه، تعرف كم قطعة من السكر يحب، ومقدار الحليب، تدرك من خلال نظراته إن كان يريد المزيد، طرد الخاطر وهو يهم بارتشاف أول رشفة، عادت صورتها تطاردهن وضع فنجانه، هب واقفا، هرول للباب، أطلق لقدميه العنان لا يعرف إلى أين تسوقه، شعر بالوحدة، لكنه حاول أن يستمتع بوحدته التي ينشدها منذ زمن، طالعته المحال بعروضها، أغلبها ملابس نسائية، يتذكر كيف كانت تنتقي ملابسها بعناية، وكيف كانت تحرص على استشارته في كل كبيرة وصغيرة، ها هي تعود إلى واجهة تفكيره من جديد، حاول التشاغل، صدمته رائحة عطر كالذي تستخدمه زوجته، قرر الفرار إلى مكان هادئ، قادته قدماه إلى نفس المكان الذي التقاها فيه أول مرة، مكانهما المفضل على مدار سنوات، حاول تغيير وجهته، كان النادل قد لمحه من بعيد وأقبل مهرولا ومرحبًا، قاده إلى طاولتهم المعهودة، وعيناه كلها تساؤل عن رفيقته الدائمة، لم يطق البقاء، هب واقفا . سار بهدوء متشاغلا بالحركة التي في الطريق، شعر بالجوع، مر بجوار المطعم الذي يرتادانه دومًا أسرع الخطي وهو يحاول طرد طيفها الذي يكاد لا يفارقه، هي من اختارت هذا المطعم يومًا، وقف أمام أحد مطاعم الوجبات السريعة، كانت دومًا ترفض هذا النوع من الأطعمة، وتذكره بأنه غير صحي، التهم طعامه في غير تلذذ، ضاق من نفسه كيف تسيطر على تفكيره إلى هذا الحد؟، يكاد يعايشها في كل لحظة، لمح من بعيد قهوة شعبية، لطالما حدثته نفسه بتدخين الشيشة، جلس بفرح طفولي إلى إحدى الطاولات، صاح طالبا شيشة وفنجانا من القهوة، بعد ساعة كان يهم بالمغادرة وآثار السعال لا زالت تخالط صوته .
حين بدأت الشمس رحلة الغروب، شعر بإرهاق لكنه لمح بعض الشباب يلعبون الكرة في إحدى الزوايا، ألقى بالسلام واندمج معهم في اللعب والركض، لم تسعفه لياقته، لهث بعد بضع دقائق، تنحى جانبًا، نظر إلى ملابسه وأطرق خجلا، تذكر كيف كانت تحرص على أناقته دومًا، أسرع إلى الفندق بدل ملابسه، فكر قليلا قبل أن تلمع عيناه: نعم إنها فرصتي لأذهب إلى الملهي الذي رغبت في دخوله دومًا، حين دلف لفه الدخان والضحكات الماجنة الآتية من كل صوب، حاول أن يبدو طبيعيا، أن يتكيف وهذا الطقس الاحتفالي الصاخب، خانته طبيعته الهادئة وميله إلى التأمل، فر خارجًا بعد بضع دقائق، لكزته غانية في كتفه وهو يهم خارجًا، نظر إليها في تقزز ووجهها الشيطاني الماجن يطالعه في برود، خطر له طيف زوجته وهدوؤها ووقارها، بجمالها الهادئ المشع طيبة، ازدرد ريقه وحث خطاه، تنفس الصعداء حين لفح وجهه هواء الشارع المنعش، حملته قدماه المتعبة عبر الطريق، سار على غير هدى، أرهقه التفكير، وجد نفسه من جديد أمام الفندق، صعد إلى غرفته، جلس على الأريكة واضعًا رأسه بين كفيه، دمعت عيناه، انخرط في بكائه كالطفل، جمع حقيبته، غادر الفندق .
حين فتحت له الباب احتضنها بعينيه، ارتسمت علامات الدهشة والرضا علي وجهها، حين دلفا إلى الداخل سألته: كيف وجدتها؟، أجاب هامسًا: لم أجدها، تعجبت وهي تردد: لم تجد الأرض؟، ابتسم وهو يقبل وجنتيها هامسًا: أظنني وجدتها هنا .

تمت


======================================================

حديث الموج



جلست مسترخية تراقب من خلف نظارتها الداكنة أمواج البحر وهي تلقي بأرتال البشر مختلطة بالزبد والرمال، تبسمت وهي تتابع الرجل السمين بسرواله المتهدل وبطنه المترهلة يدفعها أمامه في صعوبة، حولت نظرها إلى الجهة الأخرى رأت طفلين يتقاذفان بالرمال في لهو طفولي ذكرها بطفولتها، تعالت الأمواج والصيحات، الجو الاحتفالي الصاخب على شاطئ البحر يخرجها من كآبتها ويرمي بها عبر بوابة الحلم، والذكريات الجميلة، جمهرة من الشباب في مقتبل العمر اتجهت في صخب إلى البحر، تعالت الضحكات وهم يحملون أحدهم ويقذفون به وسط الأمواج، طفلة تحاول الهرب من الأمواج، تعدو تختلط ضحكاتها بصراخها مع صوت الموج الهادر في سيمفونية رائعة، الموج يضرب قدميها تعاود الطفلة الاقتراب والهرب، الأمواج كالأيام لا تتوقف عن مطاردة الطفلة .
تذكرت يوم أن رفضت ارتداء لباس البحر، شعرت بالخجل، إنه يبدي من جسدها أكثر مما يخفيه، تجادلت هي وأمها كثيرًا قبل أن يصطحبها والدها لشراء ما يناسبها ويعجبها، كان سعيدًا بها، شعر يومها أنها قد أصبحت فتاة، لم تعد طفلة .
صوت الأمواج الهادرة أخرجها من ذكرياتها، فتاة بلباس البحر تقترب من الماء، كست وجهها حمرة الخجل، لملمت ملابسها والشعور بالخجل لأجل تلك الفتاه يكاد يقتلها، لعن الله مصممي هذه الملابس، حملقت في الفتاة التي كانت تقترب من المياه ثم تبتعد في دلال، بدت سعيدة بالنظرات الجائعة حولها، قطعتي القماش اللتين تستران صدرها وفخذيها، يبديان أكثر مما يخفيان، لونهما الأحمر مع بياض جسدها البض، لفت الأنظار، تشعر بتلذذ وهي تتمايل في خيلاء، يهتز لها صدرها وردفيها، تمنت لو تقوم تسألها عن إحساسها إذا كان لديها إحساس، نار الغضب بصدرها، لا مبالاة الفتاة بالعيون المحملقة بجسدها وهي تتمايل في نزولها إلى الماء، فاقم الغضب بداخلها، لملمت أشياءها قامت مغادرة إلى البيت .
دلفت إلى حجرتها المطلة على البحر مباشرة، خلعت ملابسها توجهت إلى الحمام، شعرت بانتعاش جميل وهي تتلقى قطرات المياه المتدفقة عبر الدش، جففت جسدها ثم لفته بالمنشفة وهي تتجه صوب المرآة، أخذت تمشط شعرها في هدوء، نظرت إلى عينيها في المرآة، لمحت طيف حبيبها: اليوم تمضي عشرة أشهر علي سفره، كم أشتاق إليه، ليت الأمر بيدها أو يده ما كانا افترقا قط، صعوبة الحياة ومطالب الزواج، حتمت سفره كي يتم زفافهما، أتراه يحبني كما أحبه؟، كما أعشقه، بصخبه، بهدوئه، بضحكته المجلجلة، ونظرة الحزن ملء عينيه، بحيرته، بإيمانه، بكل متناقضاته أحبه، كم تغزل في عينيّ، حاولت أن أجد فيهما شيئا غير عيون الفتيات الأخريات، حاولت أن أجد ما يميزهما في نظره، لم أجد سوى ما أراه في عينيه هو، كم حدثني عن شفتيّ، ربما هما جميلتان شيئا ما، لكنه دوما يصفهما كأبدع ما يكون . قامت في دلال، دارت حول نفسها أمام المرآة، سقطت المنشفة عن تفاصيل الجسد المرمري، تحسست صدرها، سرت في جسدها رعشة وخدر، مرت بيديها فوق الخصر ثم استدارت لمحت بطرف عينها جسدها، تسارعت دقات قلبها، احمرت وجنتاها، أسرعت لمداراة الجسد خلف ملابسها التي التقطتها من فوق سريرها . دقات علي الباب أسرعت تفتحه، ناولتها أمها خطاب وهي تبتسم في حنان، قبلت أمها ثم أغلقت الباب، ضمت الخطاب إلى صدرها أخذت تدور حول نفسها في رقصة طقوسية تعودتها كلما وصلها خطاب منه، جلست في هدوء فضت الغلاف بحرص سحبت الخطاب، ورقة واحدة يا لك من بخيل، إنها المرة الأولي التي يرسل لها ورقة واحدة، مرت عيناها فوق السطر، شعرت بشيء غريب، هذه المرة يحمل شيئا لم تتعوده، مقتضب، بدايته غير كل الخطابات السابقة، المرة الأولى التي يشكو فيها غربته، سوء أحواله، جلست تحاول الكتابة، لم تستطع توقفت بصدرها الكلمات، جلست ساهمة، انخرطت في بكاء مكتوم، سرعان ما علا نحيبها، أسرعت أمها إليها ضمتها وهي تسأل: ماذا حدث؟، لم تجب، ألقت بالخطاب من يدها، قرأت أمها، تبسمت: أهذا ما يبكيك؟، بدلا من البكاء اكتبي إليه هوني عليه غربته، ساعديه يا ابنتي، إنه ولا شك في محنة، يواجه مصاعب، اكتبي إليه، انسي هذا الخطاب الآن، أراحتها كلمات أمها، أمسكت بالقلم، سطرت أحلي كلمات العشق والحب والحنان .
قبل أن تنطلق إلى الشاطئ في الصباح التالي مرت بمكتب البريد، استوت على الكرسي وأمالت رأسها متجنبه أشعة الشمس، جاءت جلستها بمواجهة فتاة الأمس، رمقتها بنظرة غاضبة قبل أن تحول نظرها إلى الجهة الأخرى، تعجبت الفتاة من تلك النظرة، دفعها فضولها لمعرفة السبب، هبت واقفة اتجهت إليها، ترددت قبل أن تسألها في رقة عن ماء لتشرب، حملقت بها قبل أن تمد إليها يدها بالماء، شكرتها ثم أردفت: ألم نتقابل قبلا؟، تبسمت في فتور: لا أعتقد، أردفت الفتاة: ولكني أشعر أني رأيتك قبلا، شعرت برغبتها في التعارف، ردت في لطف مصطنع: قبل الأمس لا، لكن تفضلي على أية حال، اجلسي أريد أن أحادثك في أمر، تبسمت الفتاة وهي تهم بالجلوس، همست: سها، اسمي سها ردت في دفء أمنية، جلستا في هدوء حتى وجدت أمنية نفسها غير قادرة على كبت سؤالها الذي يلح: لماذا ما ارتديته أمس؟، تلعثمت سها وهي ترد: وماذا كان بملابسي؟، ردت أمنية: ما دمت لا تعرفين فقد أجبت على سؤالي، ردت: أي سؤال تعنين؟، لا شيء، آسفة أنا مضطرة للذهاب الآن، جذبتها سها من يدها وهي تقول: أرجوك لا تتركيني هكذا، حسنا سأكون أكثر صراحة معك، إنني تعمدت لبس هذه الملابس لأشعر بأنوثتي لأشعر بأنني جميلة و..أكملت أمنية: ومثيرة ولكن أين حياؤك؟، أطرقت سها إلى الأرض وهي تهمس: صدقيني في البداية كنت أشعر بخجل عميق، لكن بعد بضعة أيام صارت الأمور عادية، أصبحت أستشعر سعادة وأنا أرى تلك العيون الجائعة تجري ورائي في نهم، صمتت لحظة ثم أردفت: ألهذا كنت غاضبة وتنظرين إلي شذرا؟، ردت أمنية في تنهيدة: لقد شعرت بالخجل لأجلك، أطرقت سها إلى الأرض: ربما أكون قد أخطأت ليس في حق نفسي فقط وإنما في حق كل فتاة، هبت واقفة مستأذنة، نظرت إليها أمنية في رقة، همست: سأتركك الآن تذهبين على أن نلتقي في الغد، أنا آتي هنا يوميا، ودعتها في ابتسامة، راح قلبها يخفق في سعادة وهي تتمنى أن تجد في سها الصديقة التي تتمناها، أمضت أمنية يومها في التحديق لموج البحر وهي تسترجع ذكرياتها، حين مالت الشمس للمغيب جمعت أشياءها وغادرت عائدة، في صباح اليوم التالي التقيا على الشاطئ، تحادثا كثيرًا، شعرت أمنية براحة وهي تحدثها وتسمع منها، حديثها عن خطيبها، سفره وخطاباته، كل هذا جذب سها، أنصتت في لهفة لقصة الحب التي ترويها أمنية بدفء، كم تمنت سها أن تعيش تلك المشاعر، سرحت بأفكارها، هزتها أمنية ضاحكة: إلى أين وصل؟، ضحكت في دلال: إلى فارس الأحلام بفرسه الأبيض، ردت أمنية: خيالات أم أحلام؟، قاطعتها سها: ليتها تتحقق، ضحكت أمنية وأردفت: الفارس الحقيقي هو من يسعى للارتباط بك، ويقلب الحلم إلى حقيقة تضمكما في بيت واحد، همست سها: يخيل إلي حين تتحدثين أنك تكبريني بسنوات، علت الضحكات واختفى الصوت ممتزجًا بصوت هدير الموج الذي كان قد بدأ السرد .
تمت
=====================================================


سقط الجان


بعد عناء يوم شاق من العمل، وجدتني ألقي بجسدي المنهك فوق سريري، لم أدرك كم مر علي كي أستغرق في نومي، شعرت بيد تعبث بشعري، ظننتني أحلم، غلبني النعاس من جديد، عادت اليد تعبث برأسي، فتحت عيناي بصعوبة، انتفضت قائمًا، ألجمت لساني المفاجأة، وجدتها بجواري تبتسم في دلال، خلتها حورية،لمحت شيئا غريبا في عينيها، حاولت التحدث، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، لمستها بيدي، اقتربت أكثر، حرارة جسدها، ابتسامتها العذبة شجعتني على الدنو منها وتقبيلها، أغمضت عينيها وأخذت نفسًا عميقا، اعتدلت في جلستي، نظرت إلي نظرة ملؤها الحب، حاولت لتحدث من جديد، وضعت يدها فوق فمي تسكتني، لثمتها، سحبتها في خجل، ظللنا جالسين ننظر لبعضنا البعض صامتين، سمعت أذان الفجر قمت إلى النافذة أفتحها تبعتني بعينيها وهي لازالت على صمتها، عند التفاتي لم أجدها، اندهشت فتشت كل ركن في الحجرة، ناديتها لم تجب، غمرتني الحيرة، بقيت طوال اليوم أفكر، غلب على ظني أنه لم يكن سوى حلم، وودت لو تكرر الحلم، كان بصدري الكثير من الأسئلة، ظلت أسئلتي تطاردني وبقيت قابعًا في سريري، جفاني النوم وسيطر علي طيفها، قبل أن يتملكني اليأس، وجدتها تقف في طرف الغرفة، أصابتني رعشة، لكنها بابتسامتها الهادئة أنستني رعب المفاجأة، همست في دلال: أوحشتني، أشرت إليها أن تقترب، تبسمت ودنت مني، جلست بقربي، وطدت العزم ألا أدع الفرصة هذه المرة تفوتني، لمحت بذكائها البادي في عينيها كم الأسئلة المتقافزة على وجهي، أطرقت إلى الأرض وبدأت تتحدث في حزن: لقد أحببتك بكل جوارحي عشقتك من زمن، كنت أراقبك ليل نهار، حركاتك، سكناتك، في صحوك وفي منامك، كنت أقضي الليالي بجوارك أتطلع إلى وجهك الطفولي وأنت نائم، كنت أجلس أمامك وأنت تأكل، أستمتع بالنظر إليك ومراقبتك، لكنك لم تشعر بي يومًا، كان هذا يحزنني، لم أستطع الصبر، قررت الظهور برغم ما ينتظرني من عقاب وطرد، حبك بداخلي أغلى وأقوى من أي شيء، صمتت لبرهة، ونظرت إلي، كنت مشدوهًا فاغرًا فاهي في بلاهة، لطالما سمعت عن حوريات الجن اللواتي يعشقن بني الإنس، كنت أهزأ من كل الحكايات وأظنها تخاريف أو قصصا من خيال قائليها، صدمتني المفاجأة، لم أحرك ساكنا، هبت واقفة، طبعت قبله فوق جبيني، تركتني مع حيرتي وذهولي وذهبت، لم أنم تلك الليلة، قضيت نهاري مشتت الخاطر، في نهاية اليوم انتابتني حيرة، انتظرتها بشغف، لكني لم أكن أدري كيف سيكون لقاءنا، ماذا سأقول لها؟، انتظرت الليل بطوله، لم تأت ، مرت خمس ليال وأنا أنتظر، ساءت حالتي، بقيت بالبيت، لم أعد قادرًا على التركيز في عملي، في الليلة السادسة، تسللت إلى الغرفة كطيف جميل، قمت إليها احتضنتها بين ذراعي، لمحت دمعة في عينيها، سألتها: لم الدموع ولماذا تأخرت عني؟، لم تجب، ألححت عليها، رفعت رأسها إلى أعلى، تحدثت وهي تغالب دموعها: لقد حاولت الابتعاد، لكني لم أستطع، حين التقيتك آخر مرة، شعرت بأنني كنت أطارد سرابًا حين طاردت طيفك كل هذه السنوات، وأن حبي قد ذهب سدى، حين رأيتك والاندهاش يغطي وجهك، حين صمت وكست وجهك الصدمة انسحبت، أدركت أنك لن تتقبلني، لكنني لم أستطع البعاد، حين عدت اليوم رأيت الحزن في عينيك، قررت أن أظهر لك ثانية، ألقت برأسها فوق كتفي وأخذت تنتحب، احتضنتها برفق، همست لها: لقد أحببتك مذ رأيتك، لن أدع شيئا يفرق بيننا، رفعت رأسها ونظرت لوجنتيها، أخذت يدي بين يديها وقبلتها، مسحت دمعة علقت فوق وجنتيها، مضت أيامنا في سعادة، لم أتخيلها ستنقطع، ازدادت عرى الحب بيننا وتوثقت، لم يشب صفاء علاقتنا سوى أمور وجدتها حينها بسيطة فقد أهملت عملي، وانقطعت صلتي بالله، فلم أعد أصلي أو أحرص على القيام بما يوجبه علي ديني من عبادات . ظلت هي سعيدة بعلاقتنا وبات حبها يزداد، وتتفنن في إيجاد السبل لإسعادي، لكنني كنت أجدني وشعور بداخلي يؤلمني وأنا أتغير، تملكني الضيق بعدما هجرت طاعة الله، أصبحت عصبي المزاج، أثور لأتفه الأسباب وأغضب، وكان حزني يزداد وأنا أراها تغفر لي ولا تغضب مني، أو تعاتبني، مضت الأيام وحزني يزداد، لم أعرف سببًا محددًا لما أنا فيه، لكنني لم أكن سعيدًا، حتى اللحظات التي كنا نمضيها سويا، لم تعد كما كانت، وطدت العزم علي إيجاد مخرج لما أنا فيه، ذهبت لإمام المسجد أسررت إليه بحكايتي، تبسم في هدوءن همس بصوته الممتلئ إيمانا وثقة بالله: عد لربك يا ولدي، تمسك بدينك واصبر، أجعل ثقتك بالله هي ملاذك، تسللت إلى نفسي سكينة لم أستشعرها منذ زمن، قمت توضأت وصليت ركعتين، حين دخلت البيت لم أجدها في انتظاري كعادتها، جلست إلي القرآن نهلت من حروفه ودموعي تنهمر، هدأت نفسي، قمت إلى المذياع أدرت المؤشر، جاءني صوت المقرئ عذبا يتلو آيات الله، مرت ليلتين، بدأت أعود إلى حالتي الأولى، ذهبت إلى عملي صباحا، وقد انتظم إيقاع حياتي من جديد، ازددت قربا من الله، أدركت أن الخلاص في صدق الإيمان، أحيانا كانت تلوح لي كطيف حزين، لكنها تتوارى خلف فيضان من الدمع، كنت أسارع للصلاة أو القرآن .


تمت

======================================================

قصر الأحزان



في نهاية الطريق المؤدي إلى المزرعة التي كان خالي يملكها، كان يطل القصر بقبته وعظمته التي توحي بأنه شيد في القرون الوسطى، كنت حين أذهب إلى المزرعة يستوقفني القصر، لم أمل النظر إليه، كان به سحرًا وغموضا، يزداد غموضه مع الأشجار الملتفة حول أسواره الضاربة في الطول، لم تمتد يد لتشذيبها، الحكايات المتداولة عن القصر قليلة، لكن المؤكد أنه لأرملة تعيش مع ابنتها، منذ زمن طويل، أبواب حديقة القصر لا تفتح سوى مرتين مرة صباحًا وأخرى عند الظهيرة حين يعود العم سليم ذو القامة الطويلة المحدودبة حاملا ما اشتراه من سوق البلدة القريبة، حاولت مرارًا أن أسأل خالي عن القصر وساكنيه، لم أحظ بإجابة، كان يمط شفتيه ويهز كتفيه معربًا عن جهله بأية معلومات تخص القصر أو سكانه، تبسم مرة وهو يسألني في دهشة: ولماذا يشغلك هذا القصر لهذا الحد؟، لم ادر بما أجيبه سوى بابتسامة باهتة .
مرت الأيام وكلما مررت يلح علي خاطر باقتحام أسرار هذا القصر، واتتني الفرصة حين تقابلت مصادفة والعم سليم أثناء خروجه من البوابة، في الستين من عمره، أسمر البشرة، نقشت الأيام على وجهه تجاعيد غائرة لم تستطع إخفاء صفاء بسمته وهو يطالع الشغف بوجهي، جمعنا الطريق الوحيد الصاعد إلى البلدة، صمت برهة قبل أن تتمتم شفتاه بسؤال بد الي كأنه يحادث نفسه، فطنت إلى كلماته حين أعادها بصوت عال، أردفت: مجاوبًا نعم أنا قريب صادق بيه، ابن أخته، تبسم وهو يحث الخطى، باغته بسؤالي: كم لك من السنين وأنت هنا، سرح ببصره وكأنه يحاول عد السنين، همس في لطف: ربما ثلاثون سنة، أردف: الطريق طويلة إلى سوق البلدة، ألمح شغفا على وجهك، سأقص عليك حكاية قدومي إلى هنا، إذا كان هذا يهمك، سارعت بالرد في لهفة: ليتني أعرف قصة هذا القصر، أقصد قصتك معه، عادت ابتسامته للظهور وصوته الهادئ يسرد .
منذ ثلاثين عامًا كنت شابًا أبحث عن عمل، درت يمينا وشمالا، رمت بي الأيام عند أحد البشوات، عملت لديه سنتين، حين جاءت الثورة أتت على أمواله، كان قد أحبني لأمانتي وإخلاصي معه، فكر في ترك البلد والرحيل إلى خارج الوطن، حين أخبرني شعرت بالحزن، لم أتفوه بكلمة، لكنه كان معي نبيلا إلى أقصى حد، حادث صديقه صاحب هذا القصر الذي أعمل به الآن، أوصاه بي خيرًا، جئت إليه ولم يمض وقت طويل حتى صار يثق بي كل الثقة، تضاءلت ثروته وتركه أغلب العاملين عنده، وبقيت أنا، زادت الصلة بيننا لم يشعرني يومًا أنني خادمه، كنت آكل مما يأكلون منه، يشركني في أمسياتهم هو وزوجته وابنته، عاملني كفرد من أسرته، وبقيت أحمل له جل احترامي وأعامله بما يستحق من احترام وتقدير، كان به من بقايا الماضي ما يسعده بتبجيلي له، وكنت أرى فيه رمزا كبيرًا من زمن ولي، وأبقاه هو كنفحة من عبق زمان عشقه وعشقته، أعادت له الثورة بعضًا من أملاكه وأمواله، انتعشت حالته لكنه لم يفكر يومًا في العودة لحياة البذخ التي كان يحياها ولم يفكر في استقدام خدم غيري، كانت زوجته رائعة الجمال وكذا ابنته التي ورثت جمالها عن أمها، شعر بأن الأيام عادت لتضحك له واستمر في رقته معي، كان يذكرني بالزواج كل فترة ويشجعني بأنه على استعداد لتحمل كافة النفقات، وكنت أنا من يختلق الأعذار ويتهرب، لا اعلم لم؟، ربما كنت سعيدًا بحياتي هكذا وأشعر بأهمية ما أقوم به وأنا أشرف على كل كبيرة وصغيرة بالقصر، بل وأهتم أيضا بابنته شاهيناز، ولأن الأيام إذا ضحكت لا تطيل الضحك فقد فاجأنا مرضه، شعر بدنو أجله بكى على ذراعي، استحلفني ألا أترك زوجته وابنته، أقسمت له ودموعي تغطي وجهي، فارقتنا روحه في نفس الليلة، ذهلت زوجته، اقتربت من حافة الجنون، ابنته أصيبت بالشلل حزنا على والدها التي كانت تحبه بجنون، انقلب الحال، وجثم الحزن على كل من بالقصر، مرت الأيام ونحن نجتر أحزاننا، لم يفلح شيء في إخراجنا من دائرة الحزن، يطبق علينا القصر بجدرانه، حادثت السيدة أن تبيعه، وأن ننتقل لمكان آخر، رفضت رفضا قاطعًا، بكت وهي تسرد لي كيف احتوت جدرانه قصتهما معًا من أول يوم تزوجا، وكيف أن لكل ركن ذكرى حلوة، لم أستطع إقناعها، غضبت، خيرتني أن أرحل ولن تلومني إذا كانت هذه رغبتي، بكيت وانصرفت، ولم أعد أفاتحها في هذا الأمر، أوقفت حياتي على خدمتهما هي وابنتها القعيدة، توقف عن السرد التفت إلي، كانت دموعي تشق طريقها عبر وجنتيّ ولسان حالي يقول: ليتني ما سألت .

تمت

===================================================


طائرة ورق



في هدوء وضع له الساعي فنجان القهوة، تثاءب وهو يعدل وضع نظارته تطلع إلى الساعة، تنهد في ضجر، قام متثاقلا إلى النافذة، ضرب بيده على صدره، همس لنفسه: متى؟، استدار إلى زملائه، لمح ابتسامة باهتة على ثغر زميله، عاد إلى مكتبه، تملكه الضجر، احتبست دمعة بعينه، دس رأسه في الجريدة، سرح بخياله، تساءل: إلى متى؟، لقد وعدني أخي، مرت سنة، لم يرسل لي، علا صوته قليلا وهو يرد: لقد وعدني، انتبه لنفسه، تلفت لمح نفس الابتسامة، ازدرد ريقه، هب واقفا، اتجه صوب مكتب المدير، خرج وبيده ورقة، همس في ارتياح: أخيرًا لدي إجازة، في طريقه إلى المنزل لمح شاطئ البحر، بدت له الفكرة رائعة، دلف إلى منزله في نشاط، فرك يديه، جمع أغراضه غادر متجهًا إلى الشاطئ .
الجو حار إلا من نسمة تراوح مع الموج، زفر بعمق، نظر إلى السماء وزرقتها الرائعة، لمح في الأفق طائرة ورقية، هبط بناظريه، صبي يمسك بطرف الخيط، تعلو وجهه ابتسامة في كبرياء، تبسم وهو يعاود مراقبة الأمواج، سرح بخياله، تذكر أخاه حين سافر، الطائرة، كلماته حين ودعه، حين وعده بعقد عمل، دائمًا تصل رسائله محملة بالأعذار، بعبارات الصبر، مرت سنة، ترى لو كانت هناك فرصة، لماذا لم تأت؟ يجب أن أكف عن التفكير في الأمر، لكن كيف؟، راتبي، آه وهل أسمي هذا راتبًا؟، ربما، اقتربت إجازة أخي، ربما، التفت إلى صياح الصبية، الطائرات الورقية صارت ثلاثا، رجل في الثلاثين يمسك بطرف الخيط لإحداها، تبسم، عاود النظر إلى الأمواج شعر بإحباط، أغمض عينيه، تناهى إلى سمعه عبارات غزل، تبسم فتح عينيه، التفت جهة الصوت، شاب في العشرين، يجلس متباعدًا، فتاة ممدة بلباس البحر، تبتسم في دلال، تدير وجهها، تحاول إخفاء سعادتها، مرر نظره فوق جسدها المدد، ازدرد ريقه، انتقل بسرعة إلى الرمال، حاول اختلاس نظرة أخرى، كأنه يرى أسرار الأنوثة لأول مرة لمح عينيها، نظراتها مزيج من النشوة والغرور اعتدلت جالسة، هرب من نظرتها الجريئة، الطائرة الورقية تهبط، عبثا يحاول الصبي رفعها، اقتربت الفتاة، في تكسر سألته عن الساعة، رد في اضطراب: الواحدة، أردف: أتنتظرين أحدًا؟، استطرد في خجل: آسف لتطفلي، شجعته نظراتها الباسمة، ردت: لا، أنا أعيش مع جدتي بعد سفر والديّ، عدل من وضع نظارته، أردفت: أنهيت دراستي بكلية الآداب هذا العام، في انتظار عمل، أو.. ضحكت وأطرقت للأرض، ابن الحلال، رد محاولا ألا ينقطع الحديث: أنا محاسب، أعيش بمفردي أيضًا، ليس لي في هذه الحياة سوى أخي، قطع حديثه صياح الصبية، التفتا، الطائرات الورقية تشابكت، ضحكا ضحكة طفولية، مرت فترة صمت، قطعها سائلا: هل ترغبين في السباحة؟، أومأت موافقة، خلع ملابسه، وضع النظارة جانبًا اتجها إلى البحر، ابتعد، مستعرضًا براعته في السباحة، حاولت اللحاق به، لم تسعفها مهارتها، اقترب أمسك بها، احمرت وجنتاها شكرته باسمه أمسك بيدها، اتجها إلى الشاطئ، ارتمت بجسدها على الرمال، جاورها مبتسمًا، نظرا إلى السماء، تعلقت أنظارهما بالطائرة الورقية الباقية محلقة، قطع الصمت قائلا: أأستطيع رؤيتك الليلة؟، اعتذرت، أردف بسرعة: غدًا إذن أنا آتي إلى هنا كل يوم .
في الغد كان اللقاء، حادثها بكل ما يجول بصدره، فتحت قلبها لكلماته، مرت الأيام توطدت العلاقة، فاتحها برغبته في الارتباط بها، طار قلبها فرحا، اتفقا على الانتظار، حان موعد حضور أخيه، لكن لم يأت، جدد وعده في خطاب، تشابكت أيديهما في الطريق إلى الشاطئ، الطائرات مازالت هناك تحلق، نفس المكان، يحلمان، مرغمان والرفيق الانتظار، يحلمان بالسفر يحلمان بالطائرة، يحلمان، حين وصلا اليوم إلى الشاطئ لم يجدا الصبي، السماء خالية، بحثا في كل الاتجاهات، لا شيء، بعد برهة لمحا الصبي، يتهادى بخطواته مقتربًا، سألاه في لهفة: أين طائرتك؟، أطرق إلى الأرض، أجاب في أسى: كسرت، تبسم، ثم أدار ظهره ,,, ردد وهو يغادر: إنها ورق ورق، ورق .

تمت

======================================================

عزف على أوتار الغربة

علا صوت ساعي البريد أسفل البناية، انتفضت مسرعة، هبطت السلم، خطفت الخطاب من يده، رمقها بابتسامته الباهتة وهو يغادر، قلبها يدق بعنف، فتحت الخطاب، احتضنت عيناها حروفه، احمرت وجنتاها في ابتسامة عذبة، تنهدت في ارتياح، همست: أخيرًا أنصت لصوت قلبي، سيعود، سرحت بخيالها، همست: باق عشرون يومًا، هبت واقفة، تغير، تبدل، أدفأت المكان بأناملها، أشرقت شمس أيامها، تخيلته في كل ركن من أركان المكان، استرجعت حركاته سكناته، ماذا يحب، كيف يعايش اللحظات، تمنت لو يفي بوعده، أن يبقى، أرهقها البعاد، قصمتها المسؤولية، لم تعد تحتمل الوحدة، هموم أولادهما، تشعر بيد الزمان تطولها .
باق يومان، طافت بأرجاء البيت، تبسمت راضية، أظنها جنته التي رأيتها في عينيه دومًا، سيبقى، أولاده يحتاجونه، أطرقت للأرض: وأنا، وأنا كم أشتاق إليه .
ألبست الأولاد ثيابهم، انتظرت مرور الدقائق، طرقات الباب أطارت لبها، دلف في صخبه كعادته احتضنهم بعينيه قبل أن يحتوي الجميع بذراعيه، انتظرت حتى وزع الهدايا، لم ترغب في شيء سواه هو هديتها الكبرى، حين احتوتهما غرفتهما، سبحت في عينيه، أبحرت معه إلى آخر بلاد العشق، عبرت شفتاه إلى أعماقه، اعتصرها كمزنة استوائية تتقاطر عشقا، أعادها موجه الهادر إلى سنوات زواجهما الأولى .
مرت أيامهما كسفينة تبحر في بحر الأحلام، يتقاسمان العمر، يتسامران في سعادة .
لمعت دمعة بعينيه، ربت على كتفيها في حنو تساقطت الكلمات من فمه ثقيلة، حان موعد الرحيل، تعلم أنه حتمي، لكنها أرادت إبقاءه ولو لبضعة أيام، فغر ثغره عن ابتسامة، وهو يردد: ثم بعد؟، لمعت الدموع بعينيها، احتضنها، ضمها لصدره، يشعر بدموعها كسياط تجلد قلبه، تنهد، داعب خصلات شعرها، قبلها وهو يمسح لؤلؤ عينيها المتناثر دمعًا، همس: يكفيني ألم البعاد عنكم، غربتي غالية، لكنها لأجلكم، أطرقت إلى الأرض، همست في انكسار: ولكن إلى متى؟، قلب شفتيه، أومأ: لا أعلم، ربما لنهاية العمر، طفر الدمع من عينيها، حاول التماسك، خانته عيناه .

تمت


====================================================


عطر جارتي



في البدء كان عطرها، ظللت أتعجب يوميًا وأنا أشم هذا العطر المفعم كلما مررت بباب شقتها، لم يمض سوى أسبوع على سكنها بالبناية، في طريقي لشقتي التي تعلو شقتها يستوقفني نفس العبير كل يوم، لم يكن عطرًا عاديًا، بل عطرًا أنثويًا أخاذا يستوقفك، يعابثك، يهدهد مشاعرك، يستثيرك .
فكرت أن أرى صاحبة هذا العطر، تراجعت، ظهرت لي الفكرة صبيانية، اكتفيت بالوقوف لحظات كلما مررت بباب شقتها، استولت على تفكيري، تخيلتها من خلال عطرها، في العشرينيات، ناهدًا، ذات حسن، بل هي أجمل الجميلات، تشع دفئا، تنبض حيوية، عايشتها بقلبي وعقلي، عقدت العزم على رؤيتها، الحديث معها، ماذا سأقول لها؟، لا أدري، ربما فقط سأبدي لها إعجابي بذوقها في اختيار العطر، أو ربما فقط ألقيت التحية، مكثت شهرًا أحاول تغيير مواعيد حضوري، لم أصادفها، مررت بشقتها في كل وقت، عاودت الصعود والنزول مرات، بقي الباب موصدًا، سئمت الانتظار زاد شوقي ولهفتي لرؤيتها، أصبحت شغلي الشاغل .
مرت أسابيع تملكني الشوق أكثر تعجبت من حالي، كيف استولت على تفكيري بعطرها إنني حتى لم أرها، حاولت صرف تفكيري، تشاغلت بعملي، لم تفلح حيلتي، ظللت على عادتي، أتوقف برهة كلما قاربت بابها، أتلفت يمينا ويسارًا، أواصل الصعود إلى شقتي .
عند عودتي اليوم لمحت عجوزا تجرجر قدميها صاعدة الدرجات، اقتربت منها، أسندتها بيديّ، تبسمت شاكرة، نفس رائحة العطر، لابد وأنها جدتها، واصلت الصعود معها بخطواتها البطيئة، ألجمني الفرح، لقد حانت ساعة اللقاء، طار قلبي فرحًا، تراقصت ضلوعي، وصلنا باب الشقة، أخرجت المفتاح بصعوبة، دعتني للدخول، لم أتردد، ارتميت بجسدي المنتفض فرحًا على أحد الكراسي، استأذنت دقائق، ما عدت أطيق الانتظار، ربما ذهبت لتخبرها بوجودي، عادت بخطواتها البطيئة، بيدها كأسًا من العصير، ناولتني إياه، حاول لساني النطق، السؤال، منعني الخجل، قالت في هدوء: أظنك جارنا، أومأت برأسي، أردفت لقد رأيتك مرة عند انتقالي لهذه الشقة، كما ترى أنا أعيش وحيدة بعد وفاة زوجي، لم نرزق بأولاد و..لم أسمع كلمة بعدها، أذهلتني المفاجأة، إذن فهذه فتاة أحلامي، امرأة العطر، نهضت واقفا، اتجهت صوب الباب، علت الدهشة وجهها، صمتت في خجل، تلعثمت وهي تقول: هل ضايقتك يا ولدي؟ هل قلت ما يغضبك؟، لم ألتفت، أسرعت خارجًا، ساخرًا من نفسي، تركتها لتساؤلاتها ودهشتها !!!!.

تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق